د.الأهدل: الفرق بين جهاد الدفع.. وجهاد الطلب..
الفرق بين جهاد الدفع.. وجهاد الطلب..
إن لأفراد المسلمين وجماعاتهم، أن يقوموا بدعوة الناس إلى الله، وتبليغهم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، لإخراجهم من الظلمات إلى النور...
وأن الواجب على الناس كلهم الدخول في هذا الدين الذي لم يبق دين حق سواه، إذا توافرت في أولئك الأفراد وتلك الجماعات الشروط الواجب إحرازها للدعاة، ومن أهمها العلم والحكمة والصبر على الأذى واللين..
كما يجب على كل مسلم القيام بجهاد الدفع، وهو أن يعتدي الكفار على بلد مسلم، فالواجب – عيناً – على كل مسلم قادر أن يتصدى لرد العدوان عن نفسه وعرضه وماله وإخوانه... في حدود قدرته..
أما جهاد الكفار بمعنى قتالهم في بلدانهم – وهو ما يسمى بجهاد الطلب - فليس من حق الأفراد والجماعات القيام به، بل لا بد من أمير للأمة يتولى أمرها ويقود جيشها بنفسه، أو يؤمر عليها من يقودها..
كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ومن تبعهم، فلم يعرف أن فرداً أو مجموعة من المسلمين [بعد قيام الدولة الإسلامية] غزوا الكفار في بلدانهم بدون أمير يقودهم وينظم شؤونهم..
ويمكن تعليل ذلك بالأسباب الآتية:
السبب الأول:
أن المصالح والمفاسد المترتبة على هذا النوع من الجهاد تعود إلى الأمة كلها، ولا تختص بمن يباشر الجهاد...
فلا يحق لفرد أو جماعة مباشرة عمل لا تتحمل الأمة كلها ما يترتب عليه من آثار، بدون مشورتها واستعدادها له.
السبب الثاني:
أن الفرد أو الجماعة التي تباشر هذا النوع من الجهاد، لا يستطيعون حماية الأمة من الآثار المترتبة على تصرفاتهم..
بخلاف ولي الأمر الذي بيده مقاليد الأمور، ومعه أهل الحل والعقد، فإنهم لا يقدمون على القتال، إلا بعد أن يتشاوروا ويتدبروا أمورهم، ويغلب على ظنهم أنهم قادرون على مواجهة عدوهم.
ثم إذا فرض أنهم غلبوا على أمرهم تحملوا تبعة قرارهم جميعاً، وحشدوا طاقاتهم، وأعدوا العدة لحماية أنفسهم..
والذي يترتب على عمله الذي يستبد به من دون الأمة، ضرر يلحق بها، ولا يستطيع هو دفع ذلك الضرر عنها، لا يحق له ذلك العمل...
السبب الثالث:
ما يترتب على الأعمال الانفرادية من الفوضى والانفلات، وعدم القدرة على ضبط الأمور، وفي ذلك ما فيه من المفاسد...
ولقد بينت رأيي في حدث نيويورك وواشنطن، الحاصل بتاريخ 23/6/1422هـ 11/9/2001م وتوقعت ما سيترتب عليه من المفاسد العظام على هذه الأمة، عندما حاورني بعض الإخوة فيما رأيتُ..
ولقد فاقت المفاسد ما توقعتُه وتوقعه كثير من الناس، ولا زالت تتوالى على المسلمين..
وأكرر مرة أخرى:
أن ذلك الحدث وما تبعه، إنما عجل بالحملة الأمريكية الظالمة، التي اتخذتها مسوغات لحملتها، وإلا فالحرب على الإسلام قد تقررت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، كما سبق قريبا.
خمس مسائل يجب على الشباب المسلم فقهها..
المسألة الأولى:
عندما يقال: إن جهاد الطلب فرض كفاية، فإذا لم تقم به طائفة كافية أصبح فرض عين على جميع المسلمين، حتى يوجدوا طائفة كافية للقيام به…
هذا حق، وهو الذي قرره جماهير علماء الإسلام في تفسير القرآن الكريم، وفي شروح الحديث الشريف، وفي كتب الفقه... وقد فصلت ذلك في كتاب "الجهاد في سبيل الله – حقيقته وغايته"..
ولكن هذا الحكم وغيره من أحكام الشريعة متوقف على "القدرة الشرعية" فإذا عجز المسلم أو المسلمون عن القيام بالحكم الذي هو فرض عين عليهم، سقط عنهم القيام به مؤقتاً؛ لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها…
ويجب عليهم في مسألة الجهاد أن يعدوا العدة التي تمكنهم من إرهاب عدو الله وعدوهم...
وإنما قلت:
"القدرة الشرعية" للتنبيه على فهم ـ نظريٍّ أو عملي ـ منتشرٍ بين بعض المسلمين، وهو أن مجرد حصول القدرة على الفعل يجعلها شرعية يترتب عليها القيام بالفعل، بدون دراسة وتأمل لما قد يترتب على ذلك، من فوات مصالح أو جلب مفاسد، وهذا فهم غير صحيح يجب بيانه.
فليست "القدرة الشرعية" هي مجرد القدرة على الفعل، لأن مجرد القدرة على الفعل، قد يترتب عليه تفويت مصالح أعظم من مصلحة الفعل، أو حصول مفاسد أعظم من المفسدة التي تحققت بالفعل، وهذا يجعل الفعل محظورا في الشرع، وتكون القدرة عليه غير شرعية في الحقيقة.
فقد كان المسلمون في مكة قادرين ـ من حيث مجرد الفعل ـ على رد عدوان المشركين عليهم، بالمقاتلة والاغتيالات ونحوها، ولكنهم لو فعلوا ذلك لترتب على فعلهم من المفاسد ما لا يحصى..
ومن ذلك على سبيل المثال:
( 1 ) وجود مجازر في كل حي وفي كل منزل من أحياء مكة ومنازلها، لأن المسلمين كانوا – مع قلتهم - مختلطين بأقاربهم وسادتهم..
وقد يقف بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم بعض عشيرته، فتقوم معارك بينهم وبين بقية القبائل القرشية، فيصبح القتال والأخذ بالثأر، هو شغل أهل مكة الشاغل، وستتوقف الدعوة...
وفي ذلك تنفير للناس من دعوة غريبة محاربة، بزغ ضياء شمسها في الأفق، إذ سيقول أعداؤها - إضافة إلى ما اتهموها به واتهموا به رسولها وأصحابه -: إنها دعوة حرب وعنف وسفك دماء..
وفي ذلك ما فيه من التنفير عن هذه الدعوة..
( 2 ) القضاء على الدعوة الإسلامية العالمية في مهدها، بالقضاء على العصبة المؤمنة القليلة العدد، الفاقدة القوة، بين الكثرة الكاثرة من المشركين، الذين يملكون مع كثرة عددهم القوة التي تتيح لهم استئصال المسلمين.
ومعلوم أن لله تعالى سننا شرعية مربوطة بسنن كونية طبيعة، فمن سننه الشرعية الجهاد في سبيل الله، ومن سننه الكونية الطبيعة التي يرتبط بها الجهاد، وجود القدرة، وهي تتمثل في العدد المكافئ من المجاهدين، وفي العُدَّة المؤهِّلة للقيام بالجهاد.
ولهذا كان للعَدَد وللعُدَّة اعتبارهما في حكم الجهاد، كما قال تعالى في العدد..
(( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )). [الأنفال:65-66].
وكان للقوة اعتبارها كذلك، كما قال تعالى: (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ )) [الأنفال: 60].
فإذا قل عدد المسلمين أمام عدوهم قلة تتيح للعدو استئصالهم، سقط عنهم جهاده مؤقتاً، حتى يكون عددهم مناسباً لتكليفهم بقتاله..
وإذا لم تكن عُدَّتهم مناسبة لوقوفهم أمام عدته، سقط عنهم جهاده حتى يعدوا له العدة التي تتيح لهم الوقوف أمامه.. ولهذا شرع الله لهم التحيز إلى فئة منهم..
كما قال تعالى: (( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )) [الأنفال: 16].
ولا يشترط أن تكون الفئة التي يتحيز إليها المجاهدون المسلمون قريبة منهم في أرض المعركة، بل قد تكون فئتهم الإمام الأعظم ومن معه من مسلمين، ولو بعدوا عن أرض المعركة.
كما في حديث عبد الله بن عمر قال:
"كنت في سرية من سرايا رسول الله ، فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله، فإن كانت له توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة..
فخرج فقال: ( من القوم ؟)..
قال فقلنا: نحن الفرارون..
قال: ( لا بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين )..
قال: فأتيناه حتى قبلنا يده"..
[مسند الإمام أحمد، برقم (5384) وسنن أبي داود، برقم (2647) وسنن الترمذي، يرقم (1716) وحسنه.ومعنى "العكارون: العطافون" ] [يراجع تفسير الآيتين في كتب التفسير، ومنها "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (4/27) دار طيبة للنشر والتوزيع)]..
__________________
إرسال هذه الحلقات تم بتفويض من الدكتور عبد الله قادري الأهدل..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
|