-2-
" بابا ، لقد إشتقنا إليك كثيراً " ، إنطلقت هذه العباره من بين شفتي عمار الصغير ذو الست سنوات ، وإشتركت جملته الحانيه تلك مع براءةِ عينيه العسليتين ووجههِ الصغير في رسم لوحه تعبيريه مؤثره ألهبت كيان والده خلف قضبان سجنه ، ولاحظت سهام مدى التأثر الذي ظهر في عيني زوجها والحزن العميق الذي إرتسم على تضاريس وجهه ، فسارعت لتغيير جو الكآبه بقولها " لقد وضعت أختي حملها ، ورزقها الله بولد جميل للغايه ، وزوجها مُصر على تسميته على إسمك ، خالد !! ".
" حقا !! ، ما ألطفه " ، نطق خالد هذه العباره وعيناه تجاهدان لمنع دمعتين من التحدر على وجنتيه مما أكسب عينيه بريقاً ولمحةٍ حزينه ، " نعم هو لطيف حقاً ، ولا تنسى أنك كثيراً ما وقفت إلى جانبه في أزماته " هكذا ردت سهام على عبارة خالد ، " بإذن الله سوف أحضر لك صورة خالد الصغير في الزياره القادمه ".
" كلا ، لا داعي لأن ترهقي نفسك يا حبيبتي بالزياره فالطريق طويل ، وخطر خصوصاً مع الحواجز الإسرائيليه الكثيره ".
" ماذا تقول !!؟ ، والله لو وضعوا ألف حاجز فلن أتأخر عن الزياره بإذن الله يا أبو عمار ، وإنتبه أنت على نفسك أرجوك ولا تشغل بالك بأمورنا فنحن بألف خير ونعمه ، وبإذن الله ستخرج لنا سريعاً بعد إنقضاء الحكم ".
" أحبكِ " ، قلها خالد بكل حنان الدنيا وهو يُلصق كفيه على الحاجز الزجاجي وسهام تُلصق كفيها من الجهه المُقابله وتذوب في بحر عينيه الواسعتين ، كم تمنت لحظتها لو ترتمي في أحضانه وتترك لدموعها العنان ، كم تشتاق لتُريح رأسها على كتفه القويه وأن تدفن نفسها في صدره.
" كم أفتقدك " ، قالتها سهام بصوتٍ مُنكسر مما ضاعف من نظرة الحزن في وجه خالد وهم بقول شيءٍ " موعد الزياره إنتهى " ، إرتفع صوت ذلك الجندي الإسرائيلي الأجش ، وإشتركت نظراته الحاده مع تصويب مدفعه على رأس خالد وإصبعه يحوم حول زنادها في صنع جو من التوتر ، بددَ رومانسية اللحظات الأخيره ، فما كان من خالد إلا أن وضع سماعة الهاتف الذي كان يتحدث من خلاله إلى زوجته في الجهه المُقابله وهو يُلقي عليها وعلى عمار الصغير نظرة الوداع.
***
" كيف كانت الزياره ؟؟ " ، هكذا إستقبله فهيم رفيقه في الزنزانه وهو يبتسم إبتسامته الساخره والتي ترتسم على وجهه دائماً وكأنها أصبحت جزءاً من شخصيته ، " أراهن أنك لم تبكِ كثيراً " قالها ساخراً.
" كفى يا فهيم ، فخالد يحتاج للراحه ، خالد دعك منه ومن سخريته وأخبرني هل زوجتك وأهلك بخير ؟؟ " ، كانت الجديه واضحه في صوت صبحي ثالثهم في الزنزانه وهو يسأل خالد مما جعله يتنهد بعمق " نعم ، حتى الآن ، ولكني لا أستطيع منع نفسي من القلق عليهم ".
" كلنا هذا الرجل يا صديقي ، ولكن ما باليد حيله ، غير أنك محظوظ يا خالد فقد شارفت على الخروج ، ولم يتبقى على حكمك سوى أقل من الشهرين ، فتفائل يا رجل ".
" هُراء ، لن يُفرج هؤلاء الأوغاد عنه قبل أن يحصلوا على كل المعلومات التي يُريدونها " ، قالها فهيم بسخريه كعادته.
" أية معلومات ؟؟ ، أنا لا أعرف شيئاً مما يُريده هذا الضابط الأحمق ، إنني حتى لستُ مُنتمياً لأي تنظيم من تنظيمات المقاومه ، أنا مجرد رجل عادي بسيط أسعى على رزق أسرتي الصغيره " ، كان التأثر واضحاً في كلمات خالد ، غير أن فهيم واصل قائلا ً " ، ليس من الضروري أن ينتمي المرء للتنظيم كي يُقدم خدماته بطريقه أو بأخرى !! ".
" كفى يا فهيم ، ما الذي تحاول أن تصل إليه ألا ترى ما نحن فيه ؟؟، كف عن هرطقتك تلك يا رجل " قالها صبحي وهو يواجه فهيم مباشره هذه المره " إسمع يا فهيم ، أنا أعلم تماماً ما الذي يدور ببالك ، وأعلم أن كلامك المُبطن هذا موجه لي أنا ، وأنك تشك في أمري من اللحظه التي شاركتكم فيها هذه الزنزانه الحقيره بأنني أتعامل مع سلطات الإحتلال ، ولكن دعني أقول لك إنك واهم تماماً في هذا الإعتقاد ، وما تواجدي هنا إلا أكبر دليل على كلامي في حين لا تملك أي دليل على ظنونك تلك ، لذا أقولها لك بكل وضوح الآن كُف عن ألعابك القذره هذه معي ، أفهمت ؟؟ ".
" كفى كفى ، هل سنتقاتل الآن وننسى المصيبه التي نتشارك بها ثلاثتنا هنا " ، هكذا قال خالد وهو يدفع فهيم وصبحي ليُبعدهما عن بعضهما البعض ، في حين علا صوت الحارس في الخارج " حان وقت الطعام أيها الأوغاد " وبدا واضحاً صوت أطباق الطعام المعدنيه وهي تُدخل إلى زنازين السجناء من فتحات خاصه في الأبواب صُممت لهذا الغرض ...
***
يتبع بإذن الله