3 ـ استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:
لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل ، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كنده وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد وأمّره على الرجّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرّز وتمنّع بالقصر ، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث أنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد . وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد ، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دوراً كبيراً في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور. وكانت المرأة تأتي أبنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف . وأخذت هذه الحرب النفسية التي جوبه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدأوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى أنه لما قرب المساء لم يبقى مع مسلم بن عقيل إلا عدداً بسيطاً يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل ، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان ، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت ويرفع راية الأمان لمن يأته من الناس وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً ، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وثبت بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة .
4 ـ القبض على مسلم بن عقيل وقتله:
أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: ياهذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فادخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسل سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانً فسلمّ نفسه ، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي ومالها من القتل أرثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين. وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي. فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالق حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره ، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه ولم يقبل أمانه ، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب لما كان يختلط به من دمه فتركه ودخل على بن زياد فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصي: فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فأقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً, فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهمّ أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده .
5 ـ قتل هانيء بن عروة:
واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق وقتل وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس ، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً . وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنون أو يعفى عنهم فيما بعد بدلاً من أراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين. وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً ـ رحمه الله ـ لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور . فالعواطف وحدها لتكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والأعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل إن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث أن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة ، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها ، وممّا قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
أصابهما أمـر الإمــام فأصـبحا
أحاديث من يسعى بكل سبيل
إلى بطل قـد هَشَّم السـيف وجهه
وآخر يَهـوِي من طمار قتيل
ترى جسداً قـد غيَّر المـوت لـونه
ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
فـإن أنتم لـم تثـأَروا بأخيـكم
فكونوا بغيـا أُرضيت بقليل
سادساً : وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين ، وملاقاته طلائع جيش بن زياد :
خرج الحسين رضي الله عنه من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحي بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله تعالى: ((لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ((يونس ، الآية : 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة . وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك ، وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد . وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق . فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك . وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد وابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد .
|