مجلة الخيمة حوار الخيمة دليل المواقع نخبة المواقع Muslim Tents
التسكين المجاني التسكين المدفوع سجلات الزوار بطاقات الخيمة للإعلان في الخيمة
الأسئلة الشائعة قائمة الأعضاء التقويم البحث مواضيع اليوم جعل جميع المنتديات مقروءة

العودة   أرشــــــيـــف حوار الخيمة العربية > القسم الثقافي > خيمة الثقافة والأدب
اسم المستخدم
كلمة المرور

 
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع طريقة العرض
  #1  
قديم 21-02-2002, 10:22 PM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي محمود محمد شاكر ومقدمات التيار التأصيلي العربي

محمود محمد شاكر ومقدمات التيار التأصيلي العربي

أولاً: عن حياة محمود شاكروأعماله وشهادته على عصره:
في مسعانا للتأريخ للتيار التأصيلي في الثقافة العربية منذ الإرهاصات الأولى له تستوقفنا شخصية عنيفة المزاج ذكية مستقلة هي شخصية الأستاذ محمود محمد شاكر الذي هو بلا ريب من رواد التيار التأصيلي وهو في الوقت نفسه يتقاطع مع التيار الإسلامي العام (والتيار التأصيلي هو بلا شك تيار إسلامي عام على حين يشكل ما يدعى حالياً التيار الإسلامي حالة خاصة جزئية من التيار التأصيلي الذي هو أعم وأوسع كما أوضحنا في مقالات أخرى، وبسبب هذا التقاطع كثيراً ما يخرج التأصيليون بآراء متطابقة مع التيار الإسلامي بمعناه الشائع وإن كانوا ذوي اهتمامات أوسع بكثير من اهتمامات هذا التيار التي تكاد تقتصر على البعدين السياسي والعقائدي دون الاقتراب من الأبعاد الثقافية والحضارية).
الأعمال التي رجعنا إليها واعتمدنا عليها في كتابة هذا المقال هي:
1-"المتنبي" في جزئين: "السفر الأول" وصدر عن مطبعة المدني في القاهرة وأرّخ شاكر مقدمته في نوفمبر 1977 وهو يحتوي على هذه المقدمة الطويلة الهامة وعلى كتاب "المتنبي" الذي صدر كعدد من مجلة "المقتطف" خاص في عام 1936."السفر الثاني"وصدر عن مطبعة المدني في القاهرة في عام 1977 وتضمن جملة مساجلات مع طه حسين كان كتبها في عام 1937 في جريدة "البلاغ" بعنوان "بيني وبين طه" عن موضوع المتنبي وتضمن أيضاً مساجلات أخرى مع سعيد الأفغاني رحمه الله وثلاثة تراجم للتنبي (علاوة على تقريظ لمصطفى صادق الرافعي)
2-"أباطيل وأسمار" وصدرت طبعته الثانية التي نعتمد عليها هنا في جزئين عام 1972 وهو مجموعة من المقالات السجالية ضد لويس عوض نشرها شاكر في مجلة الرسالة عام 1964.
وولد الأستاذ شاكر عام 1909 لعائلة من العلماء فأبوه هو الشيخ محمد شاكر الشخصية الأزهرية المعروفة ومن رجال حاشية الخديوي عباس الثاني وأخوه الشيخ أحمد شاكر عالم الحديث المشهور وصاحب الأعمال الكثيرة تأليفاً وتحقيقاً وقد كان رحمه الله من رموز الحركة السلفية البارزة في مصر والعالمين العربي والإسلامي.
--وهو يقول إنه أولع بالرياضيات بين الثالثة عشرة والسابعة عشر من عمره لذلك دخل القسم العلمي في "المدرسة الخديوية الثانوية" على أنه كان مع ذلك شغوفاً بالشعر والأدب والتاريخ فلما أنشئت الجامعة المصرية خالف اتجاهه العلمي وتوسط له الدكتور طه حسين فقبل في كلية الآداب عام 1927 وكان قد قرأ على شيخه وشيخ طه حسين سيد بن علي المرصفي ("المتنبي"-ص11 وانظر ما يقوله طه حسين عن هذا الأديب الناقد في مطلع كتابه "في الأدب الجاهلي") ونتج عن هذه القراءة عنده (كما عند طه حسين) إجلال للشعر الجاهلي واحتقار لشعر "المحدثين" (أي شعر العصر العباسي وما تبعه) وقاده ذلك إلى قراءة طويلة عميقة في الشعر الجاهلي فوجد كما يقول فرقاً واضحاً بين الشعر الجاهلي وكل من الشعر الأموي والشعر العباسي على ضآلة ما يفصل العصر الجاهلي عن العصرين الأموي والعباسي من الزمن مقارنة بما يفصله عن عصرنا. وقد اهتدى للوصول إلى هذه النتيجة باتباع منهاج خاص في التذوق يصفه في كتابه عن المتنبي ولأنه ليس من موضوع هذا المقال فنكتفي بالإشارة إليه هنا.
وفي عام 1925 أطلعه الأستاذ أحمد تيمور على مقالة مرجليوث التي أصبحت فيما بعد مشهورة بعد أن أخذ طه حسين فكرتها الجوهرية وبنى على هذه الفكرة نظريته في الشعر الجاهلي التي نشرها في كتاب بهذا الاسم أثار ضجة كبرى عام 1926.
الأستاذ محمود شاكر تلقى دراسة عميقة الأثر باللغة الإنجليزية في طفولته وهذه الدراسة كانت وفق النظام الذي أدخله الإنجليزي "دنلوب" على المدارس المصرية (17 مارس 1897) وبهذا النظام انتقل الغزو الثقافي من مرحلة البعثات التي تعتمد على تبشير المبعوثين بالحضارة الغربية إلى مرحلة أبعد منها أثراً هي قولبة التعليم المحلي لإنتاج شريحة محلية مرتبطة ثقافياً بالغزاة ويصف لنا شاكر المرحلتين على التتابع: "كان الغزاة يقنعون من المبعوثين بأن يعودوا إلى بلادهم ببضعة أفكار يرددونها ترديد الببغاوات، تتضمن الإعجاب المزهو ببعض مظاهر الحياة الأوروبية مقروناً بنقد بعض مظاهر الحياة في بلادهم، وبأن يكاشفوا أمتهم بأن ما أعجبوا به هو سر قوة الغزاة وغلبتهم، وأن الذي عندنا هو سر ضعفنا وانهيارنا. وقد وجدت ذلك ظاهراً ممثلاً أحسن تمثيل عند رفاعة الطهطاوي وأشباهه. ولكن لما جاء عهد "دنلوب" كان أمر المبعوثين وحده لا يكفي، وأصبح الأمر محتاجاً إلى ما هو أكبر وأوسع انتشاراً، فكان الرأي أن تنشأ أجيال متعاقبة من "تلاميذ المدارس" في البلاد، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بهذا التحول، عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملاً من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون، ولكنها فنونهم هم، وآدابهم هم، وتاريخهم هم، ولغاتهم هم، أعني الغزاة" (مقدمة "المتنبي"-ص29).
وبحسب تحليل محمود شاكر فإن "هذا الجيل المفرغ من ماضيه" الذي ينتمي هو إليه قد تم ملء فراغ ماضيه بماض غامض بائد ليزاحم ماضيه الحي الإسلامي فظهرت الدعوات إلى الفرعونية والفينيقية وأيضاً: "في ظل هذا التفريغ المتواصل، وهذا التمزيق للعلائق، وهذه الكثرة التي تخرج مفرّغة أو شبه مفرّغة إلى "البعثات"، وهذا التحوّل الاجتماعي والثقافي والسياسي المضطرب، وهذا التغليب المتعمّد للثقافة الغازية، بلا مقابل في النفوس من ثقافة ماضية حيّة حياة ما، وباقية على تماسكها وتكاملها، في ظل هذا كله انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشاً غير واضح المعالم، ولكنه يقوم على أصل واحد في جوهره، هو ملء الفراغ بما يناسب آداباً وفنوناً غازية كانت قد ملأت بعض هذا الفراغ، فهي تحدث في النفوس تطلعاً إلى زاد جديد معها" (مقدمة "المتنبي"-ص30).
وهكذا سطا الكتاب على المسرحيات الأوروبية و"مصّروها" وبإمكان القارئ أن يجد وصفاً طريفاً لهذا التمصير في كتاب توفيق الحكيم "سجن العمر" لأنه هو أيضاً بدأ كتابته المسرحية "بتمصير" مسرحيات لكتّاب فرنسيين مغمورين واقرؤوا إن شئتم الوصف التالي "للتمصير": "ما يصلح من المسرحيات الأجنبية لحياتنا العصرية أجري تمصيره، وما يصلح للعهود التاريخية جعل في عهد العرب أو المماليك.. وتخصص مسرح الأزبكية في هذا اللون (..) كان علينا في مجتمعنا الحجابي وقتئذ أن نغيّر في العلاقات الاجتماعية الموجودة بين الرجال والنساء في مجتمع سفوري.. كنا إذا أردنا اقتباس مسرحية أجنبية يلتقي فيها رجل بامرأة وقعنا في حيص بيص.. كيف نضع فوق خشبة المسرح المصري وقتئذ رجلاً وامرأة وجهاً لوجه لا تربطهما صلة رحم.. كان من المستحيل أن نجعل زوجة فلان "تنكشف" على زوج علانة.. كنا نتحايل على ذلك بشتى الطرق.. فنجعل هذه المرأة ابنة عم ذلك الرجل أو أنه هو ابن خالتها وهكذا.." ("سجن العمر"، مكتبة الآداب، القاهرة، بدون تاريخ، ص198).
وكذلك كانت السمة العامة للكتابات في الفلسفة أو الاجتماع أو السياسة سمة تلخيص أو سطو (أقول: يصح هذا أيضاً على عصرنا وكمثال أدعو القارئ إلى رؤية المناهج الجامعية لفروع الفلسفة أو علم النفس أو علم الاجتماع التي هي تلخيصات لا فائدة منها ولا إبداع فيها) وكان السطو في القصة أيضاً منهجاً للكتاب (وقد "ضبط" كبار الكتاب مثل المازني وهم يسطون. وبلغ الأمر بالمازني مثلاً أن يسطو على رواية كان قد ترجمها سابقاً هو نفسه ونشرها!).
وثارت قضية القديم والجديد في الصحف وظهر في النقاش ميل مزدوج كما يقول شاكر: "ميل ظاهر إلى رفض "القديم" والاستهانة به دون أن يكون الرافض ملماً إلماماً ما بحقيقة هذا "القديم"، وميل سافر إلى الغلو في شأن "الجديد" دون أن يكون صاحبه متميزاً في نفسه تميزاً صحيحاً بأنه "جدد" تجديداً نابعاً من نفسه، وصادراً عن ثقافة متكاملة متماسكة" (مقدمة "المتنبي"-ص31)
-في خضمّ هذا التفريغ "كان هناك جانب راكد مختنق، لم يفرغ هذا التفريغ، ولكن ضرب عليه حصار مفزع وبيل مهين. هذا الجانب كان هو الوارث للماضي المتكامل المتماسك، ولكنه كان يزداد على مر الأيام تخلخلاً وتفككاً وحيرة وانطواء. يمثل هذا الجانب جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم وأشباههما. كان أكبر هم هذا الجانب، في هذا اليم المتلاطم من حوله، هو محاولة المحافظة على الماضي محافظة ما ولكن قبضته كانت تسترخي شيئاً فشيئاً تحت الحصار، وتحت القذائف المدمرة التي يرمى بها، والتي تزلزل نفوس أبنائه من قواعدها" (مقدمة "المتنبي"-ص32)
لأجل صدم هؤلاء بالثقافة الغازية وتعريفهم "بما عندها من نظر ورأي في آداب العربية وعلومها وفنونها وتاريخها ودينها أيضاً" (..) انبرى أناس إلى نشر أفكار الاستشراق.. "المرتبط كل الارتباط بالاستعمار والتبشير، أي بتدمير الأمم المستضعفة وتحطيم ثقافتها وآثارها وماضيها كله" (مقدمة "المتنبي"-ص32).
ويرى شاكر أن "الجيل المفرغ" هو "جيل تلخيص وسطو"، "سطو بين أو خفي على أعمال ناس آخرين يكتبون في لغاتهم بألسنتهم، ويعبرون عن أنفسهم وعن حضارتهم وعن ثقافتهم لا عن أنفسنا أو حضارتنا أو ثقافتنا نحن" (مقدمة "المتنبي"-ص39).
ويتوجه شاكر، لأسباب ما، توجهاً معاكساً لتوجه جيله، ولعل هذا التوجه يتضح في موقفه من الاستشراق والمستشرقين فخلافاً لمثقفي جيله كان يرى في المستشرقين قوماً "جمهرتهم غير قادرة أصلاً على تذوق الآداب تذوقاً يجعلها حية في نفوسهم قبل أن يكتبوا، وهم أيضاً مسلوبوا القدرة على أن يبلغوا في لسانهم الذي ارتضعوه مع لبان أمهاتهم مبلغاً من التذوق، يعينهم على التعبير عنه تعبيراً يتيح لأحدهم أن يكون له شأن يذكر في آداب لسانه ولهذا العجز آثروا أن يكون لهم ذكر بالكتابة في شأن لغات أخرى يجهلها أقوامهم" (مقدمة "المتنبي"-ص17).
وهو ينقل ما قاله لأحمد تيمور معلقاً على مقاله مرجليوث "أنا بلا شك أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافاً مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذل العمر، وأستطيع أن أتلعّب بنشأة الشعر الإنجليزي منذ شوسر إلى يومنا هذا تلعّباً هو أفضل في العقل من كل ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي، ولكن ليس عندي من وقاحة التهجم وصفاقة الوجه، ما يسوّل لي أن أخط حرفاً واحداً عن نشأة الشعر الإنجليزي. ولكن صروف الدهر التي ترفع قوماً وتخفض آخرين، قد أنزلت بنا وبلغتنا وبأدبنا، ما يبيح لمثل هذا المسكين وأشباهه من المستشرقين أن يتكلموا في شعرنا وأدبنا وتاريخنا وديننا، وأن يجدوا فينا من يستمع إليهم، وأن يجدوا أيضاً من يختارهم أعضاء في بعض مجامع اللغة العربية!!" (مقدمة المتنبي-ص17)
-وفي الجامعة بدأ شاكر يستمع إلى محاضرات د.طه حسين عن الشعر الجاهلي فرأى أنها سرقة مفضوحة من مرجليوث فأذاع ذلك بين الطلاب ثم تصدى لحسين في قاعة المحاضرات وأعرب له عن رأيه في أن الشعر الجاهلي عند قراءته قراءة "تذوقية" يتميّز عن الشعرين الأموي والعباسي وأن هذه القراءة يجب أن تسبق الحكم بصحة أو عدم صحة الشعر الجاهلي، وشكك في صحة ما يقوله د.طه حسين عن أنه يطبق منهج ديكارت في الشك إلى آخر هذا الخلاف الذي لا يهمنا هنا ولكن الواضح أنه أثر في شاكر كما يقول ودفعه إلى ترك الجامعة والهجرة من مصر في منتصف عام 1928 إلى الجزيرة العربية حيث ظل سنتين ثم عاد إلى مصر.
-وفي عام 1935 كلّفه صديقه "فؤاد صروف"- صاحب مجلة "المقتطف" بالمساهمة في عدد خاص عن المتنبي يصدر في ذكرى مرور ألف عام على وفاته فكان أن كتب كتابه عن المتنبي، وكان هذا الكتاب موضوعاً لمعارك صحفية جديدة مع من كتبوا بعده في الموضوع (طه حسين والدكتور عبد الوهاب عزام وغيرهما) تخللتها اتهامات بالسرقة وجدل حول موضوع حياة المتنبي وشعره ليس له مكان هنا.
-وبعد عقود من الانقطاع عن النشر (أو شبه الانقطاع) عاد شاكر فنشر مجموعة من المقالات في مجلة الرسالة عام 1964 تناولت بالنقد العنيف مقالات كان ينشرها لويس عوض في صحيفة الأهرام عن "رسالة الغفران" للمعري وجمعها في كتاب سماه "أباطيل وأسمار" تضمنت جملة من الآراء الهامة المتعلقة بالهوية الثقافية العربية الإسلامية وما يميزها عن الثقافة الغربية الغازية.
ثانياً: في الرؤية العامة لوضع العرب والمسلمين عند محمود شاكر:
يقول شاكر في مقدّمته لكتاب "المتنبي": "صار بيّناً عندي أننا نعيش في عالم منقسم انقساماً سافراً: عالم القوة والغنى، وعالم الضعف والفقر، أو عالم الغزاة الناهبين، وعالم المستضعفين المنهوبين. كان عالم الغزاة الممثل في الحضارة الأوروبية، يريد أن يحدث في عالم المستضعفين تحولاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً فهو صيد غزير يمد حضارتهم بجميع أسباب القوة والعلو والغنى والسلطان والغلبة. والطريق إلى هذا التحول عمل سياسي محض، لا غاية له إلا إخضاع هذا العالم "المتخلف" إخضاعاً تاماً لحاجات العالم "المتحضر" التي لا تنفد، ولسيطرته السياسية الكاملة أيضاً. ومع أن هذا العمل السياسي المحض المتشعب، قد بدأ تنفيذه منذ زمن في أجزاء متفرقة من عالمنا، إلا أنه بدأ عندنا في مصر، قلب العالم الإسلامي والعربي، مع الطلائع الأولى لعهد محمد علي، بسيطرة القناصل الأوروبية عليه وعلى دولته، وعلى بناء هذه الدولة كلها بالمشورة والتوجيه. ثم ارتفع إلى ذروته في عهد حفيده إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي الخديوي، حتى جاء الاحتلال الإنجليزي في سنة 1882 وبمجيء سيطر الإنجليز سيطرة مباشرة على كل شيء، وعلى التعليم خاصة، إلى أن جاء "دنلوب" (في 17مارس 1897) ليضع للأمة نظام التعليم المدمر الذي لا نزال نسير عليه، مع الأسف، إلى يومنا هذا" (ص28)
لم يستعمل شاكر مصطلح "التبعية"(الذي ساد في الكتابات عن العالم الثالث في الستينات والسبعينات) غير أن هذا التحليل يلامس هذه النظرية.وفي مرات قليلة يتنبه شاكر إلى صلة الوصل بين الشعوب المقهورة في البلدان المستعمرة مسلمين وغير مسلمين غير أن كل تركيزه في التحليل على المواجهة التاريخية بين الغرب والمسلمين. ورغم أن التاريخ يشهد بصحة وجود هذه المواجهة غير أن شاكراً لا يتمتع بالدقة الكافية في تأريخه للحروب الصليبية وهو خطأ ذو نتائج راهنة فادحة.وهو أيضاً خطأ شائع نسمعه مراراً يزعم أن البيزنطيين شاركوا في الحروب الصليبية بصفتهم جزءاً من الصليبيين والحال أن الصليبيين عاملوا الإمبراطورية البيزنطية التي كانت في أضعف حالاتها وعاصمتها القسطنطينية معاملة وحشية ناتجة عن توجههم العدواني العام وانعدام أي مفهوم للتسامح الديني عندهم-خلافاً للشرق عموماً وللإسلام خصوصاً -فالكنيسة الأورثوذكسية كانت بالنسبة إليهم خصماً لا يقل في خصومته عن الإسلام- ومن أسباب ذلك أيضاً السبب الحقيقي لحركتهم وهو السطو والسرقة والغصب والقرصنة.
أما النتائج الراهنة لهذا الخطأ فنجدها في توجه يحس به القارئ دون أن يكون صريحاً للشك في ولاء المواطنين المسيحيين عندنا للوطن وهو توجه مؤسف جداً بل هو توجه مدان يتناقض مع حقيقة توجه التيار التأصيلي العربي المنشود.
وفي كتاب"أباطيل وأسمار" يصف شاكر الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي بأنه "غزو خفي الوطء،بعيد المرمى،طويل الأجل ،لم يكن غزواً بالمعنى الذي كان الناس يعهدونه يومئذ،أو الذي نعهده إلى اليوم،لم يكن جيوشاً وجحافل لها صليل يقعقع ونقع يثور،فتدك في زحفها الحصون حصناً حصناً،حتى تفرغ من الأرض كلها في شهر أو شهرين، أوعام أوعامين. كان غزواً أقل ما فيه نكاية هو"الجيوش"،وأبلغه افتراساً هو "التجارة"،وأفتكه بالإنسان هو "التبشير"" (ص183)
وهو رؤية للظاهرة الاستعمارية لا نكاد نجدها في جيل محمود شاكر من مثقفي الجامعة المصرية-فقد كانت مواقفهم تتراوح بين دعوة صريحة لاستمرار الاستعمار-لطفي السيد-وبين دعوة للالتحاق بالغرب ونبذ الشرق-طه حسين وسلامة موسى-ورؤية لبرالية تتوهم أن العلاقة مع الغرب علاقة ندية أو يمكن أن تصبح ندية بتغيير بسيط،وهذا ما نجده بوضوح في كتابات أحمد أمين وفي الكتابات "النظرية" لتوفيق الحكيم (و"يتمتع" هذا الأخير بسطحية خارقة تجعلنا نعجب ممن يعده كاتباً كبيراً بل مفكراً أيضاً..ومنهم اليساريون الذين اهتموا بالحوار معه في مطلع السبعينات)
وعلى نقيض هذه اللبرالية التي كانت موضوعياً أو ذاتياً ترسخ النظام الاجتماعي السياسي التابع فإن شاكراً أظهر رؤية صائبة للظاهرة الاستعمارية بأبعادها التي غطت عليها كتابات ما يسمى "بعصر النهضة". وحتى في المرحلة اللاحقة،مرحلة الحركات الوطنية المعادية للاستعمار،فإن الطبيعة التبعية للنهضويين لم يتم التركيز عليها فقد ساد الوهم بأن النهضويين كانوا يريدون التصدي للاستعمار الغربي عبر تحديث المجتمع ولم تتم رؤية العلاقة الحتمية بين استيراد ثقافة الغرب والتبعية له (كان مفكر قديم هو ابن خلدون أوعى حين قال"إن التقليد من علامات الاستيلاء!")
يستشهد شاكر برأي"إليوت" موافقاً عليه أن "ثقافة الشعب،ودين الشعب،مظهران مختلفان لشيء واحد لأن الثقافة في جوهرها تجسيد لدين الشعب،وأن السير إلى الإيمان الديني عن طريق الاجتذاب الثقافي ظاهرة طبيعية مقبولة" ("أباطيل.."-ص217)
"الاستعمار" و "التبشير" و "الاستشراق" ثلاثة أسماء لحقيقة واحدة،يقول شاكر،وهو يهتم بظاهرة "التبشير" ويفهمها فهماً أعم من مجرد قيام مجموعة من القسس بالدعوة إلى دينهم ونشر عقائده، وهو بهذا المعنى قليل التأثير في العالم الإسلامي إذ كان تحوّل المسلمين إلى المسيحية شيئاً نادراً (وإن كان نجاح "التبشير" أكبر في صفوف المسيحيين العرب، وهذه الحقيقة الهامة تغيب عن بال "الإسلاميين" في عصرنا بسبب فهمهم ضيق الأفق للصراع مع الاستعمار الغربي كصراع مع "المسيحية" مما يجعلهم لا يرون التأثير الثقافي الغربي في المسيحيين العرب وتحويلهم عن عقائدهم "الشرقية" المتميزة تاريخياً، وهذا التأثير جعل بعض المثقفين من تلاميذ الإرساليات دعاة للاستعمار الثقافي، وهذه العملية تهم المسيحيين كما تهم المسلمين. وقد بلغ ضيق الأفق باليساريين عندنا أنهم ناصروا التيارات المناصرة للإنجليز في الكنيسة القبطية ضد البابا القطبي وهذا الصراع مستمر إلى الآن وتلعب به الأيدي الصهيونية التي لا يعجبها الموقف الوطني للبابا شنودة من الكيان الصهيوني وغيره).
شاكر يهتم بما يسميه "التبشير الثقافي" وهو القضاء على الإسلام بنشر الثقافة الغربية ونمط الحياة الغربي وفصل المسلمين عن تاريخهم وماضيهم.
وبند أساسي في هذا التبشير هو القضاء على اللغة العربية إما بتدريس اللغة الأجنبية وترسيخها كلغة تعليم أو بالدعوة إلى العامية التي لم تزل تتردد بين عرب معجبين بالغرب "الطهطاوي" إلى مبشرين ثقافيين مثل "سبيلا" و "ويلككس" إلى سلامة موسى ولويس عوض (وبإمكان القارئ أن يعد أسماء أخرى في بلاد أخرى).
ليس "التبشير" بمفهوم شاكر إذن دعوة للدين المسيحي: "إن توهم "التبشير" دعوة للدين المسيحي أمر باطل، بل هو أحد أدوات الاستعمار الغربي في آسية وإفريقية، ولا يهمه من الدين إلا الغلبة بأي أسلوب كان، حتى يكفل سيادة الحضارة الغربية على حضارات الأمم، ولا سيما أكبر حضارة في عالمنا نحن، وهي الحضارة الإسلامية" ("أباطيل.."-ص253).
على أن شاكراً لا يبدو منسجماً في هذا الفهم فهو يعود إلى فكرة نشر المسيحية كهدف بحد ذاته للغرب، أي بغض النظر عن الغلبة والسيادة. وكاتب هذه السطور لا يرى تبرئة الغرب من التعصب الديني الموروث تجاه الإسلام كما يفعل مثقفون كثيرون عندنا (مثلاً جلال العظم) ولكنه لا يرى حصر الموضوع في الصراع الديني كما هي وجهة النظر السائدة عند الإسلاميين، والأحسن فهم الصراع في تعقيداته التي تتضمن عوامل تاريخية ودينية واقتصادية واستراتيجية، وفهم الممارسات السياسية الغربية لا يمكن بغير رؤية هذه العوامل كلها (على الأقل إذا أردنا أن نفهم كيف دعم الغرب لفترة طويلة حركات سياسية إسلامية بسبب عدائها للشيوعية!).
وإذا فهمنا "التبشير" هذا الفهم المعمّم جاز لنا أن نقول إن التبشير إذا كان بمعناه الضيق قد أخفق في البلاد الإسلامية إخفاقاً ذريعاً فإنه قد نجح بمعناه العام نجاحاً باهراً. وقد رأى ذلك "زويمر" فيما ينقله عنه محمود شاكر: "ينبغي للمبشرين أن لا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين وتحرير النساء" ("أباطيل.."-ص254).
هذا النجاح الباهر لم يجد بعد من يصفه:: التهديم الذي جرى في كل نواحي البنية الاجتماعية- الثقافية للبلاد الإسلامية وإن من حسنات "أبي فهر" (محمود شاكر) أنه تنبه إلى ذلك. يقول: "لم ينتصب أحد لوصف هذا التدمير المفزع الذي يشترك في جريمته مثقفون كثيرون، في الأدب، وفي العلم، وفي التاريخ، وفي الفلسفة، وفي الاجتماع، وفي السياسة، وفي الفن كله من مسرح وسينما وموسيقا وغيرها (...) وقد زاد الأمر فلم يبق مقتصراً على التعليم والكتابة والتأليف والصحافة، بل دخل كل بيت دخولاً مفزعاً عن طريق الإذاعة والتلفزيون،بلا رقيب ولا حسيب "("المتنبي"-ص45-الهامش)
"وصف هذا التدمير" وتتبع آثاره ضروري لمن يريد أن يبني بناء أصيلاً ويجدد التجديد الأصيل الذي وصفه الأستاذ شاكر فأحسن وصفه:"التجديد لا يمكن أن يكون مفهوماً ذا معنى إلا أن ينشأ نشأة طبيعية من داخل ثقافة متكاملة متماسكة حية في أنفس أهلها،ثم لا يأتي التجديد إلا من متمكن النشأة في ثقافته،متمكن في لسانه ولغته،متذوق لما هو ناشئ فيه من آداب وفنون وتاريخ،مغروس تاريخه في تاريخها وفي عقائدها،في زمان قوتها وضعفها،ومع المتحدر إليه من خيرها وشرها،محساً بذلك كله إحساساً خالياً من الشوائب،ثم لا يكون التجديد تجديداً إلا من حوار ذكي بين التفاصيل الكثيرة المتشابكة المعقدة التي تنطوي عليها هذه الثقافة،وبين رؤية جديدة نافذة،وحين يلوح للمجدد طريق آخر يمكن سلوكه،من خلاله يستطيع أن يقطع تشابكاً من ناحية ليصله من ناحية أخرى وصلاً يجعله أكثر استقامة ووضوحاً،وأن يحل عقدة من طرف ليربطها من طرف آخر ربطاً يزيدها قوة ومتانة وسلاسة"(مقدمة"المتنبي"-ص34-35)
وهذا تعريف في غاية الأهمية لما أسميه "التجديد التأصيلي" وفيه دقة في التحليل مثيرة للإعجاب(فلعل "أبا فهر" لم يذكر لنا عبثاً غرامه القديم بالرياضيات في عهد الصبا!)
وإنني لأدعو القارئ إلى المقارنة بين صيغة شاكر هذه وصيغة طه حسين الشهيرة في كتابه"مستقبل الثقافة في مصر": "نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة،خيرها وشرها،حلوها ومرها،وما يحب منها وما يكره.."
صيغة طه حسين بسيطة،مفرطة في البساطة:نسير سيرتهم ونكون مثلهم وهكذا يتم بجرة قلم التخلص من هذه الثقافة المتميزة واستبدالها بالثقافة الأوروبية أما صيغة شاكر فأكثر تعقيداً.إنها تجد نفسها إزاء شيئين:الماضي والمستقبل.كيف نحتفظ بالأصول وكيف نجدد على الطريقة التأصيلية لا على الطريقة الاستلابية التغريبية التي دعانا إليها "نهضويون" مثل سلامة موسى وطه حسين (في إحدى آرائه،هذه الآراء كانت تتغير أحياناً)والتبسيط المفرط والمضلل والأفكار الخاطئة التي يراد منها أن تصبح بديهيات أو مسلمات بكثرة التكرار (مثلاً "المسلمة" القائلة إن كل شيء في الغرب مرتبط ببعضه يؤخذ كله أو يترك كله) هي السمات المميزة للثقافة العربية الحديثة وللنهضويين من شبلي شميل حتى صادق جلال العظم وأشباهه من الأقل شهرة(دون أن يكونوا أقل منه "أصالة" و "موهبة"-مثلاً الذين يعيشون في أوروبا من "المثقفين" العرب)
ثالثاً:مقدمات التأصيلية في الثقافة العربية عند محمود محمد شاكر:
التيار التأصيلي في الثقافة العربية يجب أن يكون بناء في مختلف جوانب هذه الثقافة، وأعمال هذا التيار ذات الطابع السجالي مع "الحداثة" العربية مثلاُ أو مع الاستشراق أو مع الكتابات العنصرية المعادية للعرب أو الإسلام هي ذات طابع تمهيدي وحسب.إنها تمهد الأرض للبناء وليست هي البناء نفسه (ويا ليت الظروف المناسبة تجيء سريعاً فلا نعود بحاجة إلى هذه الكتابات كما لا نعود بحاجة إلى آلات تمهيد الأرض بعد أن ينتهي التمهيد ونشرع في البناء) ومع ذلك فإن للموقف التأصيلي مقدمات نفسية وفكرية لا بد له من أن يقوم عليها أعد منها نوعين اثنين توافرا عند الأستاذ شاكر:
أ-مقدمات نفسية:محبة الذات والثقة بالنفس:
العجول يتخيل أن محبة الذات أمر بديهي تقتضيه سنة حفظ البقاء،والقاعدة أن المرء يحب نفسه ويفضلها على غيرها.وللاختصار ولعدم الإطالة في هذا الموضوع الذي بحثته مطولاً في أماكن أخرى أقول:القاعدة في الثقافات المستلبة هي العكس:إن المرء يحتقر ذاته وأهله ومجتمعه ويحب الذات الغازية ومجتمعها. يرى كل شيء يميزنا قبيحاً، غير منطقي، لا معنى له ولا مبرر، وهو السبب في كل مشاكلنا الاجتماعية والسياسية إلخ..ويرى كل شيء يميز الغالبين جميلاً، منطقياً، هو السبب في كل ما يتمتعون به من تغلب، حتى لو كانت هذه الميزات عرضية. وبإمكان المرء أن يسوق أدلة مطولة من تاريخ النظر العربي الاستلابي (المستمر حتى الآن) جعلت فيه حتى ميزات من نوع برودة الجو ميزات تسبب التفوق الحضاري (لو كانت الحضارة العربية هي المتغلبة لظهر عند الأوروبيين من يفسر التفوق العربي بحرارة الجو!)
وعلى عكس هذه المقدمة النفسية للتيار المستلب (بفتح اللام) فإن المقدمة النفسية للتيار الثقافي التأصيل هي محبة الذات الحقيقية والثقة بها، ورؤيتها في تمايزاتها، ورؤية المنطق الذي يحكم "تفاصيلها الكثيرة المتشابكة المعقدة"
هذا التفهم لتفاصيل ذاتنا الثقافية الحقيقية يكسبنا ثقة بالنفس، وقد رأى القارئ كيف كانت دراسة شاكر المعمقة للتراث العربي سبباً في أن يرى بسهولة تهافت النظر الاستشراقي إلى التاريخ العربي والإسلامي. على أنني في هذه النقطة أرى أن الرؤية العربية لأبي فهر أعمق بكثير من رؤيته الإسلامية، وأعني بذلك ضحالة معلوماته، كما بدت لي، عن تاريخ الإسلام بما هو تاريخ مجموعة كبيرة من الشعوب الشقيقة التي ساهمت كلها بنصيب في هذا التاريخ. وبسبب هذه الضحالة نجد عند الأستاذ شاكر استعمالاً متسرعاً لمصطلح "الأعاجم" ويبدو هذا خصوصاً في كتابه عن المتنبي حيث يفهم منه بعض العداء لشعوب إسلامية هي شريك أساسي في هذه الحضارة وهي مركب من مركبات ذاتنا الحقيقية، ولا نحتاج إلى ضرب أمثلة على هذه الشراكة فهي واضحة وضوحاً بديهياًً. وأقول: إن هذا تسرع من الأستاذ شاكر وليس وجهة نظر ثابتة عنده لأنه كثيراً ما يستشهد بالدور التركي مثلاً ويأخذ على الحضارة الغربية أنها تفرق بين الأجناس ("أباطيل..."-ص230)
يستشهد شاكر بقول لسلامة موسى في كتابه "اليوم والغد": "ينبغي أن لا يغرس في أذهان المصري أنه شرقي، فإنه لا يلبث أن ينشأ على احترام الشرق وكراهة الغرب، وينمو في كبرياء شرقي، ويحس بكرامة لا يطيق أن يجرحها أحد الغربيين بكلمة" وأيضاً: "الرابطة الشرقية سخافة والرابطة الدينية وقاحة والرابطة الحقيقية هي رابطتنا بأوروبا" ("أباطيل.."-ص148)
وعلى العكس من هذا الموقف الداعي إلى مكافحة الغيرة على الذات وعدم محاولة الدفاع عنها كان موقف شاكر منذ البداية موقف "المدافع عن أمته العربية الإسلامية" وهذا الموقف النفسي أراه موقفاً مؤسساً للاتجاه التأصيلي (وإن كنت أجد من الواجب التحذير من الوقوع في موقف شوفيني فالثقة في الذات تتضمن أيضاً احترام الثقافات الأخرى)
ب-مقدمات معرفية: الرؤية الدقيقة للاختلاف الثقافي:
في سجال محمود شاكر المطول مع لويس عوض الذي تألف من مجموع مقالاته مجلد كبير من جزئين (نشره شاكر بعنوان "أباطيل وأسمار") كثير من الإنشاء الساخر الهجائي الذي يشتت الموضوع ولا يحتاج إليه القارئ (وإن كنت لا أرى من حق المصطادين في الماء العكر أن يتخذوه حجة لإهمال جوهر المحاججات الشاكرية. إن شاكراً قد "ضبط لويس عوض متلبساً" بأنواع من الجهل هيهات أن تفيد في تغطيتها تهجمات أصحاب عوض والمعجبين به)
ما أثار إعجابي في هذه المساجلة العنيدة المطولة مع لويس عوض (وآخرين أحياناً ممن دخلوا على الخط مثل مندور والحكيم وغيرهما) والتي نشرت كما قلنا أولاً في مجلة "الرسالة" هو الإحساس الدقيق بالاختلاف الثقافي. وآمل أن أوضح للقارئ فوراً ما أعنيه بهذا الاختلاف بصورة عامة ولكن التفصيل لا يمكن أن تفيه هذه الدراسة حقه.
إذا كانت كلمات اللغة تعرف ظاهرة "الترادف"، أي اشتراك لفظين في معنى واحد، فإنها تعرف ظاهرة معاكسة هي ظاهرة "الاشتراك"، وهي اشتراك معنيين مختلفين بلفظ واحد. والإشكال في ظاهرة الاشتراك هو أنها مولد سوء التفاهم. الاشتراك إذن هو اتحاد "الدال" واختلاف "المدلول".
وفي العلاقات بين الثقافات المختلفة تبرز للعيان ظاهرة اشتراك حين تتشابه في الاسم أو الشكل بعض مكونات ثقافتين مختلفتين وتختلفان في المضمون وينشأ هنا أيضاً سوء فهم أو سوء تفاهم (سوء التفاهم هو سوء فهم متبادل!)
سوء التفاهم الثقافي الناتج عن ظاهرة الاشتراك لا يخص العلاقة بين ثقافتين مختلفتين كلياً (الغرب والإسلام) أو جزئياً (فلاحينا و أهل مدننا مثلاً) فقط بل يخص أيضاً العلاقة مع التاريخ. وقد تنبه إلى ذلك ابن خلدون ولاحظه في مقدمته في جملة ملاحظاته العبقرية حين تكلم عن "دور الغفلة عن تغير الزمان في أخطاء المؤرخين"
إن التنبه لظاهرة "الاشتراك الثقافي" مقدمة معرفية ضرورية للتيار التأصيلي فبدونها تضيع الحدود وتتشوه المكونات الثقافية بألوان من النشازات الغريبة. وقد تنبه لهذا محمود شاكر وسنضرب للقارئ أمثلة على نضال محمود شاكر ضد هذا الالتباس الثقافي الناتج عن غباء أحياناً وعن سوء نية أحياناً أخرى .
أ-نقد "المركزية الأوروبية" عند توينبي:
يقول شاكر: "آفة العقل الأوروبي، أنه لا يرى في الدنيا إلا نفسه، ولا ينظر إلى الحضارات إلا من خلال ماضيه وحاضره" وهذا التنبه للظاهرة التي نسميها نحن الآن "المركزية الأوروبية" هو من فضائل شاكر المرموقة حقاً وهي دليل إضافي على تميزه عن أفراد جيله في نقاط حاسمة.
توينبي يقول إن اللغة العربية الفصحى هي "اللغة الدينية" للمسلمين وشاكر يقول: "توينبي معذور، حين يعد اللغة الفصحى هي اللغة الدينية لجميع البلدان الإسلامية حتى تلك التي لا تستخدمها في التخاطب. ومن العبث أحياناً إفهام العقل الأوروبي بعض الحقائق التي لا تطابق ما يتصوّر" ("أباطيل.."-ص237)
وسبب هذا الالتباس هو الاشتراك بين دالين لهما مدلولان مختلفان: إن "الكتاب المقدّس" هو في أوروبا كتاب للتعبد والصلاة لا يكاد يستخدم في غير ذلك على حين أن القرآن كتاب موجه لكل نواحي الحياة الخاصة والعامة عند المسلمين ومن هنا فإنهم لا يتعبدون بتلاوته وحسب ولكنه يطلب منهم أيضاً فهم القرآن لتطبيقه في الحياة وقد جاء الالتباس من المقارنة بين ظاهرتين متشابهتين في الشكل: تلاوة كل من الأوروبيين وأغلب المسلمين لنصوص دينية بغض النظر عن معناها وقاد هذا إلى سوء الفهم الخاص بظاهرة الاشتراك: الافتراض بأن تشابه الدالين يعني تشابهاً في المدلولين أيضاً.
ب-نقد شاكر لاستعمال ألفاظ "الخطيئة" و "الخلاص" و "الفداء" و "الصلب" في الشعر العربي الحديث:
شعراؤنا الحديثون يتعاملون في كثير جداً من الحالات مع الكلمات بطريقة الطفل الذي يعجبه بريق الأشياء ويغفل عن مضمونها فتراهم يسارعون إلى الكلمات البراقة التي فيها جديد وتوحي بمضمون عميق قد يكون سراباً.
وفي عهد شاكر (منتصف الستينات، تاريخ نشر المساجلة التي نحن بصددها) ساد عند الشعراء استعمال ألفاظ "الخطيئة" و "الخلاص" و "الفداء" و "الصلب" فتصدى لهم "أبو فهر" بنقد تحليلي صائب نلخصه فيما يلي: إن هذه الألفاظ ذات دلالة محددة مستندة إلى العقيدة المسيحية وليس لها تاريخ أو أثر في حياة المسلمين كتاريخها وأثرها في حياة المسيحيين. وهو يشرح شرحاً جيداً أميناً هذه الكلمات الأربع وفقاً للعقيدة المسيحية (ومن مزايا شاكر المشكورة أمانته فهو ينقل بدقة وبلا تحريف الردود عليه ولا يتجاهل شيئاً منها فلا يضعه أمام القارئ) ويبرهن أن معناها اصطلاحي يختلف عن معناها اللغوي فالخطيئة هي خطيئة آدم ورثها البشر والفداء والصلب هما عند المسيحيين ما تجشم عبئهما السيد المسيح لتخليص البشر من "الخطيئة" وهذه المعاني غير موجودة في الذهن الإسلامي الذي لا يؤمن بتوارث الخطيئة ولا بضرورة الفداء إلخ ..
وهذا الإيضاح لا يعني أي موقف من العقيدة المسيحية وإنما السؤال الذي يسأله شاكر هو: "ما الذي ألزمهم هذه الألفاظ الأربعة، ولم يضعوا مكان "الخطيئة" مثلاً "الإثم" أو "الذنب" أو "الحوب" أو "المعصية" أو "الزلة" أو ما شئت؟ وكيف تواطؤوا، على تباعد الديار والأوطان، على هذه الكلمة، وأي سحر فيها؟ ولم قالوا "الفداء" وأكثروا، ولم يقولوا قط "الكفارة"؟ ولم قالوا "الصلب" و"الصليب"، ولم يقولوا "الشنق" و "المشنقة" وهي أشهر وأعرف وأكثر استعمالاً إلى اليوم؟ ولم قالوا: "الخلاص"، ولم يقولوا "النجاة"؟"
هذا التواطؤ على اختيار هذه الألفاظ الأربعة من بين البدائل العديدة دليل عند شاكر على أن الأمر ليس مصادفة. ("أباطيل.." ص215)
شاكر يرى أن في الأمر مؤامرة تبشيرية يتم فيها إدخال عقائد مسيحية خلسة عبر إدخال كلمات دالة عليها.
وبرأيي فإن في هذا مبالغة ولكن هذا المثال مهم ويحسن بنا النظر إلى حقيقته بصورة مختلفة قليلاً: إن هذا المثال هو فيما أرى أحد الأمثلة على التفضيلات الجمالية الاستلابية فإن "الصلب" أجمل عند المستلب من "الشنق" لأن "الصلب" هو من مصطلحات ثقافة الغالبين،الغرب،على حين أن الشنق عادة من "عاداتنا" (وأنعم وأكرم!) وبالمثل الكلمات الأخرى. والقاعدة واحدة:"الإفرنجي برنجي"،"زامر الحي لا يطرب" ولا يتخيل أحد أن هذا التقضيل الجمالي يخص المسيحية بحد ذاتها فما كان المسلمون ليروا هذه الألفاظ جميلة بحد ذاتها لو لم يكن الإسلام دين أمة في وضع هزيمة ولو لم تكن المسيحية دين الغالبين.
ج-نقد شاكر لاستعمالات كلمة "الدين":
يتتبع شاكر ببحث صبور المفهوم الإسلامي لكلمة "دين" ليميزه عن الاستعمال الغربي لهذه الكلمة "فمن أجل ذلك رأيت أن أكتب هذه الكلمات،ثم أتبعها ببعض البيان عن معنى "الدين" عندنا،وهو،وإن لم يكن مجهولاً منذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق من ربه،إلا أنه قد انتهى إلى أن يكون كالمجهول،بعد أن غلبت على ديار الإسلام حضارة نابعة من تراث أهل الكتابين المذكورين في كتابنا المنزل،وذلك لأنهم يستخدمون لفظ "الدين" للدلالة على شيء يأبى ديننا نحن أن يسلم بدلالاته إباء مطلقاً.ثم شاع اللفظ عند عامة أهلنا بالمعنى الذي جاء في تراث أهل الكتابين،فدخل على معنى "الدين" ما ليس منه، وحدث اختلاط وفساد، كلاهما يؤدي إلى سوء التفكير،وإلى ضلال النظر عن الحق الذي أمرنا باتباعه" ("أباطيل..."ص525)
ولن نسوق هنا تفاصيل هذا التحليل المطول الصبور لما يفهمه كل من "المسلم" و "المسيحي" و "اليهودي" و "المجوسي" لهذه الكلمة بحيث لا يفهم الواحد منهم من دين الآخر إلا ما هو مشترك من التعبد لرب دون ما هو مميز لكل دين على حدة. ما نريد التركيز عليه هو شعور شاكر الحاد بضرورة التمييز بين المعاني المختلفة للألفاظ:
"نحن أحوج ما نكون إلى الدقة والتغلغل والنفاذ إلى أعماق المعاني والألفاظ، بلا حيرة ولا بلبلة ولا عي عن بلوغ أقصى ما نطيق من التمييز" ("أباطيل.."-ص526)
وفي الكتاب متابعة لألفاظ أخرى مثل "الرجعية" و "الثقافة" و"السلفية" وتتبع مختصر لتاريخ استعمالاتها يبلغ من رهافة الحس التاريخي والنسبي ما يجعلنا نأسف لضياع قسم كبير من جهد شاكر في الكتابة الإنشائية الهجائية التي ترهق القارئ من جهة والتي تجعلنا نأسف لتبدد جهود هذا الكاتب الموهوب في مثل هذا الإنشاء غير المفيد من جهة أخرى. وليته صرف هذا الجهد في ابتكار تحليلات دقيقة مثل التي قدمناها في هذا المقال إذاً لكانت خدمة لا تقدر بثمن لهذه الثقافة العربية.
خاتمة:
يقول محمود شاكر في مضمار نقده لتوينبي: "العقل الذي لا يتصور أن الحياة البشرية قادرة على صنع الحضارات، بلا استناد إلى "طريقة العيش الغربية" و "اعتناق مبادئ الحضارة الغربية"، عقل قد أسقط من حسابه أن الحضارات قامت وبادت من قبل أن تكون الحضارة الغربية وأصولها جميعاً على ظهر الأرض، وأن هذه الحضارة إذا بادت واستؤصلت، فالإنسان أياً كان بعد ذلك، قادر على أن يبني حضارة جديدة تناقض هذه الحضارة الغربية في "طريقة العيش"، وفي "المبادئ" التي تدعيها" ("أباطيل.."-ص229)
وأقول: إن لهذه الحضارة الغربية إبداعات هائلة ومحاسن لا يمكن ولا يجوز إنكارها لصالح البشر غير أن جوانبها اللاإنسانية ما عادت تخفى على حكماء الغرب قبل أي أحد آخر وربما أكثر من أي أحد آخر وإن ترك المجال لتجارب حضارية أخرى وعدم محاولة قهر هذه التجارب المختلفة لصياغة البشرية كلها على القالب الغربي هو أمر فيه الخير للبشر كلهم بمن فيهم إنسان الغرب.
لكن العقل مع الأسف ليس هو المقرر الوحيد للتاريخ البشري وينبغي للتجارب الحضارية أن تثبت آهليتها للحياة ليس فقط بمزاياها الذاتية بل أيضاً بقدرتها على حفظ الذات والدفاع عنها في وجه التهديدات الخارجية وهذا ما أثبتته تجارب حضارات شعوب أمريكا الأصلية التي هي في ذاتها لم تكن أقل قيمة أخلاقية أو حتى أقل تقدما في مجال العلم والتقنية من الحضارة الغازية وليس كما زعم الفاتحون وصدقناهم نحن. إن هزيمة الحضارة لا تعني أن الحضارة المهزومة أقل قيمة بذاتها فحامل البندقية يغلب حياً أعزل دون أن يدل ذلك على أنه، لأنه غلب كل أفراد الحي، "أحكم الجميع" أو "أكثرهم تقدماً" وكل هذا صحيح ومهم ولكنه مع الأسف لا يكفي. التأكيد على الهوية العربية لا يكفي ليأكل العرب خبزاً أو ليهزموا من يريد بهم شراً. إن الهوية لا غنى للإنسان عنها ولكن ليس بالهوية وحدها يحيا الإنسان!
مع ذلك يبقى العمل على مضمار الوعي والثقافة مهماً ولا غنى عنه ويبقى أمام التيار التأصيلي العربي مهمة إثبات أنه قادر على البناء كما هو قادر على التصدي للاستلاب الثقافي.
الرد مع إقتباس
 


عدد الأعضاء الذي يتصفحون هذا الموضوع : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 
خيارات الموضوع بحث في هذا الموضوع
بحث في هذا الموضوع:

بحث متقدم
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا بإمكانك إضافة موضوع جديد
لا بإمكانك إضافة مشاركات جديدة
لا بإمكانك إضافة مرفقات
لا بإمكانك تعديل مشاركاتك

كود [IMG] متاح
كود HTML غير متاح
الإنتقال السريع

حوار الخيمة العربية 2005 م