الإجحاف بحق المجتمعات الإسلامية عند بعض الدعاة
هل يجوز أن يكون الحكم واحداً على مجتمع من المجتمعات الإسلامية والسلطات التي تتحكم فيها؟
"فتويان" سمعتهما في أوروبالاتزالان تطنان في أذني، ومنذ سمعتهما شعرت بأنني لن يهدأ لي بال ولن يرتاح ضميري حتى أبدي رأيي بهما، وأبذل ما أستطيع من جهد في بيان خطئهما وخطورة العقلية التي تقف وراءهما:
أما الأولى فقد صدرت في حضوري عن إمام أحد مساجد الغرب حين سأله أحد الحضور عن حكم حمل جواز سفر الكيان الصهيوني، فقال بلا تردد: إنه جائز، وأضاف: وما الفرق بينه وبين جوازات بعض الدول العربية؟ أليست هذه الدول مثلها مثل "إسرائيل" لا تطبق الإسلام؟
وأحب أن يلاحظ القارئ أن هذا "المفتي" لم يعلل إجازته لحمل جواز الكيان الصهيوني بعلل قد يكون بعضها مقبولاً عند جزء على الأقل من علماء الإسلام، علل من نوع القول إن هذا الخيار هو الخيار الوحيد أمام القطاع المعني بهذه القضية من المسلمين الموجودين في فلسطين المحتلة عام 1948م فهو خيار اضطراري لا مندوحة عنه، مثل أكل الميتة ولحم الخنزير للمضطر، وإنما عللها بأنه لا فرق بين أن يحمل المرء جواز سفر لدولة عربية لا تطبق الإسلام، وأن يحمل جواز سفر صهيونياً!
أما الفتوى الثانية وتمت أيضاً بحضور الفقير لله، فصدرت من داعية مشرقي مشهور زارنا في الغرب والتقى جمعاً غفيراً من العرب في المسجد الذي تولى دعوته، وفي هذا اللقاء أبدى أحد الحضور شكه في جواز إقامة المسلم المختار غير المضطر في أوروبا لما تشكله هذه الإقامة من خطر داهم على عقيدة الأطفال وأخلاقهم خصوصاً.
وكما في الحالة الأولى لم يتردد هذا الداعية في تسفيه هذا التوجه والسخرية منه قائلاً إن الذي يرى هذا الرأي لا يدل على أكثر من أنه غير قادر على أداء واجب القوامة في بيته وأضاف إذا كانت المسألة مسألة فسق في المجتمع فإن الفسق موجود حتى في مكة!
1أن تقول إن الفسق موجود في مكة مثلما هو موجود في أوروبا فهذا يعادل تقريباً قولك إن جرثومة السل موجودة في الهواء العادي وليس فقط في رئتي المسلول عافانا الله وإياكم فلا داعي إذن لاتخاذ احتياطات خاصة عند الاحتكاك مع المسلول، وكالقول إن الفسق يمكن أن يكون موجوداً في أي حي عادي في المدينة تماماً كما هو موجود في الملهى الليلي المخصص لهذه الغاية وينتج عن ذلك أن الوالد لا يلام إذا اختار لنفسه استئجار غرفة في هذا الملهى ليقيم هو وعائلته وإذا شك في جواز هذا الاختيار شرعاً فإن من واجبنا أن نؤنبه ونعده غير أهل للقيام بواجب القوامة في بيته!
نتائج وخيمة
تعبر الفتويان السابقتان عن عقلية شديدة الخطر تنظر إلى الواقع بنظارات سود تجعلها لا تفرق بين المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، فكل القطط رمادية في الظلام كما يقول المثل!.
الدعوى السائدة عند هؤلاء مبنية على القياس الخاطئ التالي: الشريعة الإسلامية لا تطبق في هذا المكان إذن: كل البلاد سواء!
لنلاحظ أن هؤلاء لا ينتبهون إلى النتائج المنطقية الوخيمة لهذا الزعم: مثلاً لماذا إذن ندعم المجاهدين في سبيل استرداد فلسطين مادام الكيان الصهيوني والبلاد العربية والإسلامية سواء؟
ألا تعبر مناصرتنا للمجاهدين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين المبتلاة بالاحتلال الأجنبي على أننا لا نضع علامات مساواة بين هذه البلاد ومحتليها! وأننا نعدها بلاداً إسلامية ونقاوم تغيير وضعها القائم على علاته إذا كان هذا التغيير سيأتي من قبل المحتل الغاصب؟
وما أحسب هؤلاء لو احتل الكيان الصهيوني دولة من هذه الدول التي لا يرون بينها وبينه فرقاً إلا مستنفرين المسلمين للجهاد دفاعاً عنها فلماذا إذن هذه "الفتاوى" التي نخشى أن ينطبق فيها قوله تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (القلم).
الميل إلى التجني على المجتمعات الإسلامية : ثمة أصل معرفي خاطئ يحرك تلك المحاكمات هو ببساطة الدمج بين الحكم على الأنظمة السياسية السائدة في معظم بلاد المسلمين وصفتها العامة أنها أنظمة تابعة سياسياً مستلبة ثقافياً والحكم على المجتمعات الإسلامية التي هي رغم بعدها عما نتمناه لها من سير قويم على قواعد شريعتنا العظيمة إلا أنها مجتمعات تحب الإسلام ولا تناصبه العداء، بل تتماهى معه ولا يهون عليها التفريط به، فهي إذن ليست "مجتمعات جاهلية وكفى" وقد قام علماء ودعاة كثيرون مشكورين في السنوات الأخيرة بالتفنيد الدقيق لحجج مكفري المجتمعات الإسلامية، فلا نعيد هذه الحجج هنا ونكتفي بالإشارة إليها. ما نريد في مثال ملموس عن الفرق بين أن تربي أطفالك في مجتمع مسلم وأن تربيهم في مجتمع غير مسلم أن نبرهن على أن المجتمع المسلم حتى في وضعه المعتل القائم يختلف اختلافاً جوهرياً عن المجتمع غير المسلم!
الفرق بين أن تعيش عائلتك في أوروبا وأن تعيش في مدينة مسلمة أن الأب قد يسأل في تلك المدينة إذا كان مرافقاً لابنته عن هذه المرأة التي يرافقها من هي؟ أما في أوروبا فالسائل سينال نصيبه من الشتم والإهانة. كما أن البنت والولد في المجتمعات الإسلامية لا يضبط سلوكهما الأهل فقط وفق معايير إسلامية، بل يتولى المجتمع بأسره هذا الضبط من الحارة إلى العمل إلى المدرسة إلى كل الأماكن الممكنة! أما في أوروبا فإن القانون يحاسبك بمجرد بلوغ ولدك وبنتك سناً معينة إذا حاولت "التدخل في حياتهما الشخصية"!
أساس شخصية الفرد
ولنسر في التحليل إلى نقطة أبعد من هذا وأعمق . نقطة تبرهنها التجربة ولا يمكن توقعها بمجرد التأمل أو المحاكمة المنطقية وهي أن التركيبة الأساسية لشخصية الإنسان لا يقوم بها إلا المجتمع المحيط، فالناشئ في بيئة عربية مثلاً ستكون شخصيته عربية أما الأطفال الذين تربوا في أوروبا فهم ذوو شخصيات أوروبية حتى لو كان آباؤهم عرباً، وهذا الأمر لا خيار فيه لأحد لا الأهل ولا الطفل فهو عملية طبيعية حتمية لا مجال للتدخل فيها، إلا في الحالة المستحيلة التي لا يرغب بها أحد على كل حال وهي حالة عزلة الولد عن المجتمع وبقائه مع أبويه طيلة الوقت ليلاً ونهاراً والطفل سينشأ أوروبياً ولكنه إذا هداه الله يمكن أن يكون مسلماً أوروبياً ناطقاً بالعربية، وهذا هو أفضل وضع ممكن للطفل، ولكنه في الواقع الملموس للجاليات المسلمة في أوروبا ليس هو الوضع المألوف مع الأسف، فكثرة كاثرة من أطفال العرب هنا لا تعرف العربية بالمرة ومن يعرفها منهم يعرف عاميتها فقط بلا قراءة ولا كتابة إلا أقلية زهيدة.
غير المجرب سيعترض بالتأكيد على ما قلته للتو إذ إن مثل هذه المعلومات كما قلت لا يتوصل إليها المرء بالتفكير المجرد، ولهذا السبب نفسه فهو لا يستطيع بعد أن يتوصل إليها بالتجربة أن يقنع بها من لم يجرب، فغير المجرب قد يعترض فوراً ويقول إن دور الأسرة كاف لصياغة شخصية الولد كما يريد أهله! وإنني لأدعو المعترضين إلى الاحتكاك لوقت كاف مع أبناء العرب الذين تربوا في أوروبا في أحسن حالاتهم بمعيار المحافظة قدر الإمكان على سمات الهوية الثقافية للأهل ليروا أنهم في الواقع لا يتعاملون مع عرب بل يتعاملون مع أوروبيين سود الشعر سمر البشرة وقد لا نرى مانعاً مبدئياً في هذا إذا كنا لا نفرق أصلاً بين العربي والأوروبي على قاعدة الهوية القومية، ولكن المسألة هي أبعد من ذلك فالمنطق المادي الذي يقوم عليه المجتمع الغربي الذي يحاول المفكرون المخلصون في الغرب بكل جهدهم أن يحرروا أنفسهم منه إذ هو متغلغل في اللا شعور ونكاد نقول يجري في الدم ويتنفس مع الهواء لأنه مستبطن في التجربة الحياتية وفي اللغة نفسها هذا المنطق سيغزو طبعاً ابنك وابني ولكي تعيد هذا الولد إلى وضع استبطان المنطق الشامل للهوية الثقافية الإسلامية أنت بحاجة إلى جهد غير ممكن بل باختصار إلى معجزة! والحقيقة أن هذه المعجزة هي أبعد بكثير مما يتوقع المبسطون عن الواقع فأغلب الآباء هنا هم في مستوى وعي متواضع ولو فرضنا جدلاً أنهم حازوا على الوعي اللازم والإرادة اللازمة فإن من النادر أن يحوزوا على الوقت الكافي وهم في غمار مشكلات اللقمة لينصرفوا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عناصر الهوية الثقافية الأصلية للأولاد.
إعادة الاعتبار
أذكر القارئ أنني لا أنوي التطرق إلى موضوع الفتوى في جواز أو عدم جواز الإقامة الاختيارية في الغرب وأنا بالمناسبة لا أميل خلافاً لما قد يتوقع قارئ السطور السابقة إلى التحريم المطلق لهذا، وإنما كان الحديث السابق عن الفرق بين تربية الولد في مجتمعاتنا وتربيته في أوروبا مدخلاً مناسباً للحديث عن الفرق بين المجتمعات المسلمة التي قد لا تعجبنا أوضاعها والمجتمعات غير المسلمة بما لا يبيح لنا البتة الحديث عن سوائية في الحكم.
وإذا كان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن فإنه عز وجل يحفظ شريعته في صدور أبناء المجتمع، وفي لغتهم، وفي قواعد سلوكهم التي يسيرون عليها لا شعورياً، وهذا الحفظ لعله أعظم أشكال الحفظ وما الصحوة الإسلامية المعاصرة إلا دليل على هذا الحفظ فهل انطلقت هذه الصحوة من مجتمعات أوروبا وأمريكا وكندا أم انطلقت من المجتمعات الإسلامية التي يتجنى عليها بعض دعاة هذه الصحوة فيزعمون أنها لا تختلف عن المجتمعات الغربية أو غيرها من المجتمعات غير الإسلامية؟.
|