مالك بن نبي وشروط النهضة
مالك بن نبي وشروط النهضة
· تمهيد:
في تشخيص مشكلة المجتمع المسلم في العصر الحديث تناول المفكرون المسلمون أبعاداً مختلفة، وأفرد بعضهم لبعد معين الدور كله في المشكلة كمن جعل المشكلة في العقيدة أو في السياسة إلى آخره ..
مالك بن نبي رحمه الله نظر إلى المشكلة على أنها مشكلة حضارة، غير أننا نرى أنه يضمن هذه الرؤية أبعاداً متعددة بتعدد أبعاد الحضارة نفسها، ومن هنا اختار عنواناً عاماً لكل كتبه هو: "مشكلات الحضارة".(1)
وكان لا بد له لكي يشخص "مشكلات الحضارة" عموماً والمشكلة التي تهمه بصورة خاصة وهي مشكلة الحضارة الإسلامية من أن يحلل العناصر المكونة للحضارة، وكيف تتركب وما الذي يقود الحضارة في درب النهوض أو درب الانحطاط. وفي أبحاثه التي تمحورت حول هذا الموضوع تحول بن نبي إلى فيلسوف حضارة وعالم اجتماع وعالم تربية مرموق، وهو في كل هذا يشغل مكاناً مرموقاً في الفكر الإسلامي المعاصر يستحقه بجدارة. وفي اعتقادي أننا الآن بحاجة إلى قراءة أفكار هذا المفكر الهادئ والتعلم منه، لا أعني بالضرورة أن نقره على كل تفاصيل تحليلاته ولكن يجب أن نستخلص ما هو قيم حقاً في فكر بن نبي وهو طريقته في رؤية مشكلة الحضارة الإسلامية وتحليلها والجوانب التي يلفت انتباهنا إلى ضرورة التركيز عليها.
هذا المقال أريده تحية لروحه المخلصة ومساهمة متواضعة في إعادة بعث الاهتمام بهذا المفكر الكبير.
وسأقسم المقال إلى قسمين أتحدث في القسم الأول عن مفاهيمه النظرية المتعلقة بالحضارة والنهضة وشروطها، وأتحدث في القسم الثاني عن موقع بن نبي في الفكر الإسلامي المعاصر.
· القسم الأول: نقاط أساسية في نظرية الحضارة وشروط النهضة عند بن نبي
· الدورة الحضارية:
يرى بن نبي أن كل حضارة تبدأ ببزوغ فكرة دينية تقوم بتركيب عناصر الحضارة، وتنظم الطاقة الحيوية للأفراد وتثير فيهم الحركة والنشاط بحيث يتحرر الفرد في هذه المرحلة الأولى الصاعدة من هيمنة الغريزة ويخضع لهيمنة الروح،وفي هذه المرحلة تصل "شبكة العلاقات الاجتماعية" إلى قمة كثافتها (فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً) هذا هو وضع النهوض، وهو في الحضارة الإسلامية يكافئ المرحلة النبوية ومرحلة الخلافة الراشدة. ويؤرخ بن نبي نهاية هذه المرحلة في الحضارة الإسلامية بمعركة صفين.
والمرحلة الثانية تنعطف فيها الحضارة بسبب المشكلات المادية الناتجة عن توسع المجتمع الوليد منعطفاً تكف فيه الروح عن السيطرة المطلقة على الغرائز، ويبدأ عهد العقل، ويعادل هذا المنعطف في الحضارة الإسلامية المرحلة الأموية والمرحلة العباسية، وبحسب تعبيره "هو منعطف للعقل". غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها عن عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد. وطبيعي ألا تنطلق الغرائز دفعة واحدة وإنما تحرر بقدر ما يضعف سلطان الروح" ("ميلاد مجتمع.." –ص103)
وفي هذه المرحلة تنقص الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية، وإن كانت الحضارة نفسها تبلغ أوجها فتزدهر العلوم والفنون فيها، ولكن مرضاً اجتماعياً يكون قد بدأ وإن تكن آثاره المحسوسة لم تظهر بعد. إن الطبيعة تستعيد سيطرتها على المجتمع والفرد شيئاً فشيئاً.
ثم تدخل الحضارة طورها الثالث، وهو طور الانحطاط والانحلال، ولا يعود للفكرة الدينية فيه من وظيفة اجتماعية، وتعود الأشياء كما كانت في مجتمع منحل، وتتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية بانحلال المجتمع إلى ذرات لا روابط بينها وتنتهي بهذا دورة الحضارة.
ويميز بن نبي بين وضعين متناقضين للإنسان: "وضع ما قبل الحضارة" ،و "وضع ما بعد الحضارة" ،فالوضع الأول هو وضع الإنسان الفطري أو الطبيعي وهو مستعد للدخول في دورة الحضارة كما هي الحال مع العرب قبيل ظهور الإسلام، أما الحالة الثانية فهي حالة الإنسان الذي تفسخ حضارياً وهي حالة إنسان ما عاد قابلاً لإنجاز عمل محضّر إلا إذا تغير هو نفسه من جذوره الأساسية. ويمثل بن نبي للحالين بجزيء الماء قبل وصوله إلى الخزان الذي ينتج الكهرباء وبعد خروجه من الخزان، ففي الحالة الأولى يكون الجزيء مشحوناً بطاقة كامنة سيبذلها منتجاً عملاً، وأما في الحالة الثانية فإن الجزيء يكون قد فقد طاقته المذكورة ولم يعد في إمكانه أن يستعيد طاقته هذه إلا بواسطة عملية جوهرية تتمثل في عملية التبخر التي ترجع به إلى حالة بخارية وفي التيارات الجوية الملائمة التي ترجعه إلى أصله، حيث يتم تحوله من جديد إلى جزيء مائي واقع "قبل" خزان معين. ("شروط النهضة" –ص71)
"إنسان ما بعد الحضارة" هو الإنسان المسلم منذ انهارت دولة الموحدين، وهو يسميه "إنسان ما بعد الموحدين"، ومرحلة التفسخ الحضاري هذه ما زال المسلمون يعيشونها، وإن كانت الحضارة الإسلامية في العصر الحديث شهدت محاولات لاستئناف نهضة جديدة في أماكن متعددة من العالم الإسلامي.
فكرة الدورة الحضارية هذه نجد نظائر لها في الفكر العالمي، وأهم ممثليها عندنا ابن خلدون وإن كان اهتم بالدولة أكثر من اهتمامه بالحضارة وهي أعم من الدولة.
وفي اعتقادي أن فكرة الدورة الحضارية هذه هي في غاية العمومية والتجريد شأن أفكار فلسفة الحضارة والتاريخ عموماً، ولا يمكن البرهان القاطع على صحتها أو خطئها، ومن هنا فهي ليست فكرة علمية بحصر المعنى، ولكن هذه الفكرة قادت بن نبي إلى تحليلات عميقة وخصبة لشروط النهضة الحضارية، وهي متفرقة في كتبه وكرس لها كتاباً خاصاً هو "شروط النهضة". وفي الحقيقة البحث في شروط النهضة هو الهم الأساسي لبن نبي، وهو الذي قاده إلى تأملات متشعبة في بناء المجتمع وعلاقاته ودور العامل الخارجي (الاستعمار) والداخلي (القابلية للاستعمار) في وضعه الراهن.
· العناصر الثلاثة للحضارة ودور الدين:
يقول بن نبي إن العالم الإسلامي يعمل على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من عمله على بناء حضارة، وهذه العملية لا تؤدي به إلى إنجاز البناء الحضاري المطلوب في زمن قصير كما فعلت اليابان التي انتقلت بين عامي 1868 و1905 من العصور الوسطى إلى الحضارة الحديثة من هنا فبن نبي لا يريد لبناء الحضارة الجديدة المنشودة أن يخضع للصدفة أو للتطور الطويل بل يريد البناء الواعي المخطط قصير الأمد انطلاقاً من العناصر الأساسية للحضارة كما يراها: "فالعالم الإسلامي يريد أن يجتاز نفس المرحلة بمعنى أنه يريد إنجاز مهمة "تركيب" الحضارة في زمن معين، ولذا يجب عليه أن يقتبس من الكيماوي طريقته، فهو يحلل أولاً المنتجات التي يريد أن يجري عليها بعد ذلك عملية التركيب. فإذا سلكنا هنا هذا المسلك قررنا أن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية:
ناتج حضاري= إنسان + تراب +وقت
ففي المصباح مثلاً يوجد الإنسان خلف العملية العلمية والصناعية، التي يعتبر المصباح ثمرتها، والتراب في عناصره من موصل وعازل، وهو يتدخل بعنصره الأول في نشأة الإنسان العضوية، والوقت "مناط" يبرز في جميع العمليات البيولوجية والتكنولوجية، وهو ينتج المصباح بمساعدة العنصرين الأولين: الإنسان والتراب" ("شروط.." –ص45)
فإن كانت الحضارة ناتجاً لاجتماع هذه العناصر الثلاثة فلماذا لا يوجد هذا الناتج تلقائياً بمجرد توفر هذه العناصر؟
جواب بن نبي يمثل له بالتركيب الكيميائي: "الماء في الحقيقة نتاج للهيدروجين والأوكسجين وبرغم هذا فهما لا يكونانه تلقائياً، فقد قالوا إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقتضي تدخل "مركب" (بتشديد الكاف وكسرها.م) ما، بدونه لا تتم عملية تكون الماء. وبالمثل لنا الحق في أن نقول: إن هناك ما يطلق عليه "مركب الحضارة" أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، (...) هو الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ".("شروط.." –ص46)
دور الدين إذاً في الحضارة هو دور العامل المركب لعناصرها، واختفاء هذا الدور يعني تحلل هذه العناصر إلى وضع غير مركب أي تحلل الحضارة.
وبن نبي يرى أن هذه الفرضية تنطبق على جميع الحضارات، فالحضارة الغربية في رأيه بنتها الفكرة المسيحية التي دفعت البداوة الجرمانية بعد ستة قرون من الإسلام إلى تكوين هذا الكيان الذي أسسه شارلمان، ذلك أن المسيحية على رأيه حين ظهرت في الشرق لم تأت إلى أرض بكر بل جاءت إلى وسط خليط تعمل فيه ثقافات متنوعة، وليس كذلك كان الأمر في أوروبة حين بعث فيها شارلمان الروح المسيحية. وهذا التحليل يتفق فيه بن نبي مع المفكر الألماني كيسرلنج والمؤرخ هنري بيرين في كتاب له قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية عنوانه "محمد وشارلمان". وحتى الحضارة التي قادتها الأحزاب الشيوعية الملحدة لا يستثنيها بن نبي من هذه القاعدة قائلاً إنها من جهة نتاج لأزمة في المسيحية وإنها من جهة أخرى لم تقم حقيقة في مستواها الإنساني على الأفكار الماركسية الملحدة بل قامت على تفاني أفراد توجههم فكرة عن التضحية في سبيل المصلحة العامة: "تعتبر الشيوعية النظرية قبل كل شيء "فكرة" ماركس، ولكن هناك شيوعية واقعية، هي في جوهرها نشاط المؤمنين المدفوعين بنفس القوى الداخلية التي دفعت غيرهم من المؤمنين في مختلف العصور، أولئك الذين شهدوا مولد الحضارات. فالظاهرة متماثلة في جوهرها النفسي ومحددة هنا وهناك بنفس سلوك الفرد حيال مشاكل المجتمع الناتج"("شروط.." –ص54)
ويضرب بن نبي المثل برفع العامل الروسي استخانوف لإنتاجه اليومي إلى الضعف مقارناً إياه بالعمل المضاعف الذي بذله الصحابة في بناء مسجد المدينة أو في حفر الخندق "ففي كلتا الحالتين نجد أن الإيمان هو الذي مهد الطريق للحضارة" ("شروط.. –ص55)
ولا شك عندي أن بن نبي رحمه الله لا يجهل الفارق بين العقيدة الشيوعية الملحدة التي من مسلماتها عدم وجود يوم آخر وبين الإسلام الذي يرتجي فيه المسلم الأجر الحقيقي في الآخرة ولكنه يرى فيما يبدو لي أن هؤلاء الروس الذين كانوا متحمسين في البداية للشيوعية حولوا إليها كل طاقتهم الدينية المكبوتة التي حالت خيبة أملهم في الكنيسة دون إبقائها في إطار ديني صريح بشكله المألوف. وهذا الحماس الذي ينتاب أهل المبادئ فيدفعهم للتضحية بأنفسهم في سبيل مثلهم العليا لا أجد حقاً له تفسيراً إلا أنه من أصل ديني حتى لو ظهر بصيغ بعيدة عن الدين.
الدين في رأي بن نبي إذاً هو العامل الذي تقوم الحضارة به وتتحلل بصورة مضطردة كلما ضعفت فاعليته: "تطور الإنسانية هو ما يحدث من نمو في مشاعرها الدينية المسجلة في واقع الأحداث الاجتماعية، تلك التي تطبع حياة الإنسان وعمله على وجه البسيطة" ("ميلاد.." –ص56)
|