الوضع العربي الراهن:انكشاف الاستلاب الشامل
مقدمة في المفهوم:
حاز مفهوم "الاستلاب" على استعمال واسع في الفكر الغربي (وكلمة "الاستلاب" هي إحدى ترجمتين عربيتين لكلمة Alienation الإنجليزية و معادلها الألماني Entfremdung والترجمة الثانية هي "الاغتراب" وأنا أفضل الترجمة الأولى لأن من الأفضل عند تحويل كلمة إلى مصطلح اختيار كلمة نادرة الاستعمال ليست متداولة بمعان أعم. ومن هنا لم يكن "الاغتراب" هو المصطلح المناسب ).
ويبدو أن هذا المصطلح هو بالفعل جذاب لكل مفكر يريد دراسة مشكلة فقدان الإنسان للانسجام مع ذاته أو مع المجتمع. وقد استعمل المصطلح بكيفيات عديدة لا يكاد يكون بينها علاقة إلى درجة أن أي مؤلف جديد يستطيع استعمال هذا المصطلح بمفهومه الخاص دون أن يعترض عليه إلا من يجهل الاستعمالات العديدة غير المترابطة التي استعمل فيها في الفكر الغربي الحديث، والكاتب الذي درس هذه الاستعمالات دراسة دقيقة وهو ريتشارد شاخت (1) يشبه مصطلح الاغتراب بمصطلح "وجودي" عند سارتر الذي قال عنه: "إن هذه الكلمة أصبحت تطلق على العديد من الأشياء بتوسع بالغ إلى حد أنها لم تعد تعني شيئاً على الإطلاق" ويضيف شاخت معلقاً: "ويمكن أن يقال ذلك على مصطلح الاغتراب وإن يكن المبرر في الحالة الأخيرة أقوى، لا يعني ذلك أن ننكر أن الظواهر التي توصف لأنها كذلك على يد من يستخدمون هذا الاصطلاح هي ظواهر هامة بل الأمر على العكس فالعديد من هذه الظواهر لها أهميتها ومغزاها وتستدعي الحد الأقصى من الاهتمام، إلا أنه بسبب استخدام هذا الاصطلاح فيما يتعلق بالعديد من الظواهر المتباينة أصبح لا يتمتع بأي ارتباط خاص بأي منها، ولا يعني استخدام اصطلاح الاغتراب اليوم دون مزيد من الإيضاح لما يقصده المرء ما يتجاوز قيام المرء بطرق كوبه الزجاجي بملعقته في إحدى المآدب، إن كلا الأمرين لا يسفر إلا عن جذب الانتباه" (2)
وهذا التشكيك بوجود معنى محدد ،ولو حتى عام للمصطلح مفيد إذا أردنا سلفنا أن نغلق الباب على من يأتي ليتهمنا بأننا "استعملنا المصطلح خطأ" ،فشاخت يرى أن هذا الاعتراض غير منطقي، ولكنني سأفيد منه استنتاجاً منطقياً في ظني وهو أن على الكاتب أن يحدد ما يعنيه بالضبط من هذا الاصطلاح.
ومن جهة أخرى فإنني أعتقد أن هناك "جواً عاماً" إن صح التعبير،تندرج فيه أغلب استعمالات هذا المفهوم،وإنني الآن وأنا بصدد التعليق علىانكشاف ظواهر نفسية-اجتماعية جماعية للجماعة المعنية،سأستعمل هذا الجو العام لأرصد أبعاد هذه الظواهر، وأحدد في كل حالة مفهومي للاستلاب الذي أصفه،وإنه لمصطلح فرض نفسه علي بشكل غريب،فكأنني لم أجد كلمة تجمع هذه الظواهر غير "الاستلاب".وإنني لآمل أن القارئ بعد أن ينتهي من المقال لن يرى أنني جانبت الصواب كل المجانبة،وأن الحدس اللغوي المفهومي قد خانني.
وكاتب هذه السطور استعمل هذا المصطلح فيما مضى في توصيف وضع نفسي خاص يعادي فيه الإنسان مكونات ذاته الحقيقية ويتبنى إزاءها موقفاً هو موقف مرجع معاد له.(3)
والكاتب العربي ينطبق عليه في أغلب الحالات ما قاله ذات مرة الألماني فيلهلم رايش: "من يستطيع كتابة أبحاث جمالية عن معنى اللون عند الصراصير في بيت يحترق؟" لا يمكنه أن يبعد التحديات المصيرية التي يواجهها شعبه من رأسه حين يكتب حتى في المواضيع الفكرية الأكثر تجريداً، بل إن هذه التحديات قد تفرض عليه موضوع الكتابة أصلاً.
و الدافع الذي دفعني لكتابة هذا المقال كان هذا الوضع المأساوي الذي يجد فيه كل عربي نفسه: إنه يشهد خطر موت هذه الثقافة العظيمة وقد ملأه الشعور بالعجز وانعدام القدرة على التأثير في مسار الأحداث.
هذا الشعور بالعجز سيخطر ببالي أولاً أن أرى فيه واحداً من تجليات ما أسميته قديماً "الاستلاب التغلبي" وهو قناعة الفرد بأنه مهزوم بصورة حتمية في أي صراع يخوضه أو بتعبير آخر قناعته بصفرية قوة المغالبة عنده.
ولكنني حين أفكر في عناصر هذا الوضع مزيداً من التفكير أجد أن الوضع استلابي حقاً غير أنه متعدد الجوانب، وهذا المقال يهدف إلى استجلاء بعض هذه الجوانب.
يتبع...
هوامش:
(1)انظر "الاغتراب" – ريتشارد شاخت- ترجمة كامل يوسف حسين- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 1980. انظر مناقشته الختامية في الفصل السابع- ص 299-331.
(2)م.ن- ص 299.
(3)نشرت هذه النظرية بعنوان "النظرية العامة للاستلاب" في كتاب هو "حول الحب والاستلاب- دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة"- دار الكنوز الأدبية- بيروت- 1995- ص 25- 69.
|