<<<خاصية الاتساع في القرآن>>>
<<<خاصية الاتساع في القرآن>>> لسماحة الشيخ الخليلي
أنزل الكتاب العزيز ليخاطب الإنسان وليوجهه إلى الله سبحانه وتعالى، وليقيم العلاقة بين بني جنسه على أساس العبودية لله سبحانه وتعالى والطاعة المطلقة له، لأنه عز وجل هو الذي خلق هذا الوجود، وأنعم على كل موجود، وهو الذي خلق الأرض ومنافعها للإنسان، وهو الذي سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، فإذاً هذا الخطاب الإلهي الذي في هذا الكتاب الكريم يتوجه إلى الإنسان بما يتلاءم مع طبيعة الإنسان؛ كخليقة في الأرض، وقطب في هذا الكون، وجزء من هذا الوجود، لأجل ذلك كان هذا الخطاب كثيراً ما يكون له علاقة بنواميس الكون وسنن الوجود، ولذلك نجد في كتاب الله سبحانه وتعالى الأخذ بيد هذا الكائن البشري، والطواف بفكره وبعقله في أرجاء هذا الوجود.
فالقرآن الكريم عندما جاء ليخاطب الإنسان لم يأمره بأن يغمض عينيه ويسد أذنيه ويختم علـى قلبـه ويستسلم استسلاماً مطلقاً لما يوجهه إليه من خطاب، ولكنه أمره أن يفتح عينيه على صفحات هذا الوجود، ليدرس فيهـا آيات الله سبحانه وتعالى التي تبصر هذا العبد بحقيقة أمره، وتعرفه بربه، وتذكره بحق المبدئ المعيد الذي اسبغ هذه النعم الظاهرة والباطنة، وكثيراً ما يأتي ذلك في معرض الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، كما تجدون ذلك واضحاً جلياً في قول الله تبارك تعالى: "وإلَهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فإنه عقب هذه الآية على الفور جاء قول الله سبحانه وتعالى: "إن في خلق السمَوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون".
وكذلك عندما دعا القرآن الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ذكرهم بخلقهم وبخلق أصولهم، وذكرهم بنعمة الله سبحانه وتعالى عليهم بتسخير هذه الأرض قراراً لهم، وبإيجاد بناء هذا الكون الذي يحفظ بمشيئة الله سبحانه وتعالى استقرار هذه الأرض ويحفظ نظام الحياة فيها، فقد قال الله سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشاَ والسماء بناءَ وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون" ثم يستمر السياق في هذا الموضوع بالذات؛ وإن كان يتعرض لجوانب متشبعة فيه، وينتهي إلى قوله سبحانه وتعالى: "كيف تكفرون وقد كنتم أموات فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم".
ولأجل ذلك؛ فإنه ليس من العجيب في معرض إقامة الحجة على هذا الإنسان أن يتعرض القرآن الكريم لأمور خفية مما هو في سر طبيعة الإنسان، أو في سر طبيعة الكون، مما لم يكن بادياً لعقول الناس في وقت نزول القرآن الكريم، كيف؛ وهذا الكتاب الكريم نفسه أنزله الله سبحانه وتعالى مسايراً للحياة البشرية في أطوارها منذ نزوله وإلى أن يرث الكون، وليست هذه المسايرة في التخلي عن الشرائع التي فرضها الله سبحانه وتعالى عليهم، ولكنه يساير أطوار البشر في عقول هؤلاء الناس واستيعابهم للحقائق الكونية البادية الخفية، فتجد الآية الواحدة من كتاب الله سبحانه وتعالى يفهمها التالي أو السامع في عصر من العصور بحسب مقاييس ذلك العصر، وبحسب المفاهيم الشائعة آنذاك فيما يتعلق بطبيعة الكون، ثم تتطور الأحوال وتتكشف أمور لم تكن متكشفة من قبل، وإذا بهذه الآية نفسها يتلوها التالي أو يسمعها السامع ويجدها مرة أخرى أيضاً مفهومة عنده بحسب المقاييس الفكرية الموجودة في وقته، وبحسب التطور العلمي في زمنه، فسعة البيان الرباني تشمل جميع العصور مع تطوراتها المختلفة، مع أن البيان البشري كلما كان أبلغ كان أكثر نصية على موضوعه، بحيث إذا تطورت الأفكار واختلفت وجد ذلك البيان يتناقض مع ما فهم في عصر أو في آخر، فالبيان البشري الذي وجه إلى مجتمع بشري معين كلما كان أبلغ كان ذلك المجتمع البشري السامع لذلك الكلام أكثر ما يكون إدراكاً لنصية ذلك البيان، فإذا اختلفت المقاييس من بعد نجد فيها ما يتصادم مع ذلك البيان البشري، بخلاف البيان الإلهي، فهذه الآية مثلاً وهي قول الله سبحانه وتعالى: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" هذه الآية فسرها المفسرون بتفاسير معينة في العصور الغابرة، وكانت هذه الآية حسبما يتصورون جلية واضحة حسب التفسير الذي توصلوا إليه، ثم تطورت الأحوال وحصلت اكتشافات علمية جديدة، وإذا بذلك التفسير يتبين أنه لم يكن دقيقاً، ولكن بجانب ذلك يتضح اتضاحاً قطعياً بأن دلالة القرآن دقيقة، فدلالة القرآن على ما وصلت إليه عقول الناس في هذا العصر الحاضر دلالة دقيقة ليست كتلك التفاسير التي توصل إليها السابقون.
|