الإبتلاء
و قد يسأل سائل إذا كان الله يحبني كل هذا الحب فلما يبتليني بالفقر مثلا أو بالمرض ؟
نقول له اعلم أن من شدة حب الله للعبد ابتلاءه ،وقد تتعجب من ذلك، ولكن لا تعجب، وهل كان الله لا يحب أنبياءه ورسلَه ؟! فانهم كانوا أشد الناس إبتلاءً . واعلم أن البلاء نوعان :بلاء بالنعمة كالمال والولد والسلطان ،فإذا كان هؤلاء عند العبد أحب إليه من الله، أصبحت النعمة نقمة عليهم ،والدليل على أن النعمة بلاء قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)الفجر :15 أما النوع الثاني فهو بلاء بالمشقة ،كالفقر والمرض كما في قوله (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) الفجر :16
الإشراك في محبة الله
واعلم أن حب الأموال والأولاد مثلا -وهم نعمةٌ من الله- إن كانوا أَحَبَّ إلي العبد من الله سبحانه وتعالى ،فانه قد أشرك في محبة الله سبحانه وتعالى ،كما قال تعالي

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة :24واعلم أن محبة المؤمنين لربهم أشد من محبة هؤلاء المشركين لربهم ولأندادهم ، ثم إن اتخاذ الأنداد هو من أعظم الذنوب، كما في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ (صحيح :رواه البخاري) فأنزل الله تصديق ذلك: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) الفرقان :68 فدعاء إله آخر مع الله هو اتخاذ ند من دون الله يحبه كحب الله، إذ أصل العبادة المحبة ، وكما قال تعالى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحيم)التغابن :14 وكما قال تعالى (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)التغابن :15 إذن كل نعمة تؤدي إلى البعد عن الله فهي فتنة ونقمة، ولا يفرح الإنسان بالنعمة لأنه إن لم يشكر الله عليها، و إن لم تقربه من الله تعالى تكن عليه و بالاً وجحيماً ، أما إذا ابتلى الله عبده ببعض الأمراض مثلا أو بالفقر فصبر واحتسب ذلك عند الله، فسوف يكون من الذين يحبهم الله تعالى كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)البقرة 155 وكما قال تعالى (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) واعلم أن أمر المؤمن كله خير كما في الحديث عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ (صحيح :رواه مسلم وصححه الألباني انظر حديث رقم : 3980 في صحيح الجامع . ) علمت كيف يحبك الله سبحانه وتعالى إذا صبرت على الأذى والبلاء !!
محبة العبـد لله
والآن وقد تأكد لك وعلمت علم اليقين محبة الله لك، وأنه جعل كل شيء يحبك كما وعد، فجعل الملائكة يحبونك و يستغفرون لك،و وجعل لك القبول في الأرض، وجعل بين المؤمنين مودةً ورحمة، ألا تستحي وتبادل الحب بحب ؟واعلم أن المحبة على قسمين:
المحبة الواجبة : وهي تقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ،بحيث لا يحب شيئا يبغضه كما قال تعالي (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) المجادلة :22وذلك يقتضي محبة جميع ما أوجبه الله تعالي وبغض ما حرمه الله تعالى .
المحبة المستحبة : وهي أن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه كما في الحديث القدسي أن رسول الله قال فيما يرويه عن ربه (وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) صحيح : رواه البخاري وصححه الألباني انظر حديث رقم : 1782 في صحيح الجامع .
ويجب أن نعرف انه لا فرق بين الأركان التعبدية من شهادة أن لاإله إلا الله محمد رسول الله ،وإقام الصلاة، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ،وبين عمارة الدنيا ،والتي تؤدي إلى إسعاد الناس .
فالأركان التعبدية ضرورية للشحن الإيماني حتى نستطيع إعمار الدنيا .وأما تقسيم علماء الفقه للأركان إلى عبادات ومعاملات إنما هو تقسيم اصطلاحي
محبة العبد لله
اعلموا أن دلائل محبة العبد لله سبحانه وتعالى هي الطاعة عن بصيرة, فإذا سألتك هل تحب الله سبحانه وتعالى؟ سوف تكون الاجابة: نعم بالطبع وهل يحب الله أحدٌ مثلي. فأقول هل تطيعه هل تصلى هل تصوم ؟ لا تترد في الإجابة
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن أحب مطيع
إذا أراد العبد أن يتأكد من محبته لله لابد وأن تكون عبادته خالصة لوجهه تعالى بمعنى أنه إذا ذهب إلى الصلاة ليصلي لابد أن يسأل نفسه لماذا يذهب للصلاة؟- وهكذا في كل العبادات- فيسأل هل الغاية هي الحصول على أجر هذه الصلاة؟ -وهى مثلا الصلاة بعشر صلوات- وهذا لا حرج فيه إطلاقا ،لأن ذلك وعد الله سبحانه وتعالى لنا، أم أن الغاية هي حب لقاء الله سبحانه وتعالى، والتذلل والخشوع له، والشوق إلى لقاءه، حيث يجب أن تكون عبادتك لله عز وجل خالصة له كما قال تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) الإنسان : 9 ثم إذا ذهبت إلى الصلاة هل تريد أن يقصر الإمام في الصلاة حتى تلحق بالمسلسل أو بالمباراة ؟أم تريد أن يطيل في الصلاة حتى تطيل اللقاء مع الله سبحانه وتعالى؟ فتأنس به وينشرح صدرك وتحس أنك في ملكوت الله ،ولكن قبل أن تجيب انظر إلى قول الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا موسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) طه : 18 وهنا يجب أن نسأل لماذا أطال سيدنا موسى عليه السلام في الحديث مع الله ،ولم يكتفي بقوله هي عصاي أتوكأ عليها فقط ،ولكنه زاد - وأهش بها على غنمي -إنما أراد أن يتلذذ بالكلام مع الله سبحانه وتعالى وهذا حال المحبين لا يملوا الحديث مع بعضهم .والآن أيهما أحب إليك: الانصراف مسرعا من الصلاة إلى مشاهدة التليفزيون أم التلذذ بالوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى ؟
المقصود من ذلك ألا ننظر إلى حجم الجزاء فقط بقدر أننا نقصد بهذا العمل التقرب من الله، والحب له، وإن كان هدف الحصول على الجزاء من الله مشروعا أيضا بل واجب الحصول عليه ،لأنه من الله، ولكن حب الله غاية أسمى وأجل، وكذلك في كل العبادات يجب أن تكون الغاية منها هي محبة الله سبحانه فيجب أن يكون الله ورسوله أحب ألينا مما سواهما وهذا واضح من الحديث الآتي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمان أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار (صحيح :رواه البخاري) فمحبة الله ورسوله تُوجِد حلاوة في القلب لا يحس الإنسان بمثلها، حتى ولو كانت في جماع الزوجة ،فإن كانت هذه لذة عظيمة فإن لذة التضرع إلى الله أعظم وأحلى، ولما لا يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وقد قدم الله لنا محبته فهو الذي خلقنا ،وهو الذي يرزقنا، وهو الذي أنعم علينا بنعم لا تعد ولا تحصى كما قال تعالى (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ابراهيم :34 فإياك أن تنشغل بالنعمة عن المنعم
أحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهـل لذاكـا
فأما الذي هو حب الهـوى فشغلي بذكرك عمن سواكـا
وأما الذي أنت أهل لــه فكشفك لي حتى أراكــا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا