" الإرهاب وأبطاله " صناعة إسرائيلية
"فضيحة لافون" ..
هو ذلك الاسم الذي اشتهرت بـه عمليات التفجير المدبرة التي شهدتها الأراضي المصرية عام 1954م واستهدفت على وجه الخصوص تدمير المنشآت الأمريكية والبريطانية، الموجودة في مصر، لأجل زعزعة الأمن المصري وتوتير الأوضاع بين مصر والولايات المتحدة وعرقلة الخطط البريطانية بالجلاء عن مصر.
محيط : فتحى مجدى
المصالح الأمريكية كانت هدفاً للتفجيرات الإسرائيلية
ورغم مرور أكثر من نصف قرن، على وقوع هذه العمليات الإرهابية وضبط مرتكبيها ومحاكمتهم أمام القضاء على أفعالهم الإجرامية، إلا أن الذاكرة الإسرائيلية لا تزال تستحضرها باعتبارها "عملاً بطولياً يستحق من قاموا به شهادات التقدير والتكريم وتقليدهم الأنواط التذكارية نظير دورهم في تأمين أمن دولة إسرائيل"، بعد أن قام الرئيس موشيه كاتساف مؤخراً بتسليم رسائل شكر إلى ثلاثة من عناصر الشبكة ما زالوا على قيد الحياة وجميعهم فى العقد السابع من العمر وهم: مارسيل نينو، روبير داسا، ومائير زعفران. وسلمت رسائل أيضا إلى عائلات ستة آخرين من عناصر الشبكة منهم اثنان أعدما فى مصر بعد الحكم عليهما بالموت.
ولعل رد الفعل المصري متمثلاً فيما أبداه وزير الخارجية أحمد أبو الغيط من دهشة واستغراب، إزاء تكريم إسرائيل لهؤلاء الإرهابيين ومنحهم الأوسمة على ما قاموا به من أعمال تخريبية على الأراضي المصرية، ما ينذر ببوادر أزمة دبلوماسية قد تشهدها العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية، والتي شهدت طيلة الأربع سنوات الماضية توتراً ملحوظاً توجته القاهرة بسحب سفيرها لدى إسرائيل في أعقاب اندلاع الانتفاضة وتزايد العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين. قبل أن يؤدي مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد في الأسبوع الأول من فبراير الماضي، إلى إشاعة "دفء ملحوظ" في أجواء العلاقات بين الجانبين.
وكان من نتيجته أن أعادت القاهرة سفيرها إلى تل أبيب، في مبادرة منها لفتح صفحة جديدة في العلاقات تؤذن بإحياء مسار العملية السلمية المجمد وإلى تفعيل خطة "خارطة الطريق" التي تنص على إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وجاء التكريم الإسرائيلي لعناصر أخطر شبكة إرهابية هددت الأمن المصري قبل سقوطها، ليبدد جهود الداعين للتطبيع مع إسرائيل، وإنهاء ما يسمى بـ "السلام البارد"، نتيجة رفض الأوساط الشعبية والقوى السياسية والنخبة الثقافية تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية رغم مرور 25 عاماً على توقيع اتفاقية السلام المعروفة بـ "كامب ديفيد" في مارس 1979م.
والسطور التالية تستعرض "فضيحة لافون" باعتبارها أشهر عملية إرهابية جرى الكشف عنها وتستعيد وقائعها لتسلط الضوء على دور إسرائيل التخريبي في المنطقة ومخططها لزعزعة الاستقرار في المنطقة ومصر على وجه الخصوص من خلال ما يسمى بـ "الضربات الوقائية"، والتي تبناها "المحافظون الجدد" في الإدارة الأمريكية الحالية واُعتمدت كاستراتيجية في إطار ما تسمى بـ "الحرب ضد الإرهاب"، على النحو الذي يتضح في الحرب على أفغانستان أواخر عام 2001م والغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003م.
لم يكن قد مر عامان بعد على ذكرى ثورة 23 يوليو، التي قادتها بنجاح مجموعة "الضباط الأحرار" من المنتمين للجيش المصري والذين أطاحوا بحكم الملك فاروق الأول، حتى بدأت إسرائيل تعد العدة لمرحلة جديدة في صراعها مع العرب بعد نكبة عام 1948م، إذ كان الاعتقاد السائد لدى إسرائيل حينئذ هو أن الدول العربية لن تلبث أن تعمل على الانتقام لكرامتها المهدورة، وستستعد لخوض حرب جديدة ضد إسرائيل.
ومع استقالة ديفيد بن جوريون من رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع في العام 1954م، جاء بدلا منه موشي شاريت في رئاسة الوزراء وبنحاس لافون في وزارة الدفاع، بالتزامن مع ما كانت تشهده مصر من تطورات في ذلك الحين وتتهيأ للحصول على الاستقلال التام من بريطانيا بسحب الأخيرة قواتها المرابطة في منطقة القناة، ومع الانفتاح المصري في العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس ايزنهاور، أدركت إسرائيل مخاطر تهديد هذه التطورات لمصالحها، فبدأت تُعد العدة للدخول في صراع من نوع آخر، تأمل من نتائجه أن يؤدي إلى تجميد الانسحاب البريطاني من مصر وأن يؤدي إلى تدهور العلاقات المصرية - الأمريكية في مهدها.
وكان ذلك الهدف هو أساس خطة للتخريب والتجسس في مصر وضعتها المخابرات العسكرية في الجيش الاسرائيلي، وتقضي بتنفيذ اعتداءات على دور السينما والمؤسسات العامة، وبعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية.
وبدأت إسرائيل في تشكيل مجموعة لتنفيذ هذه العمليات التخريبية في مصر وأوكلت مسئوليتها إلى المقدم موردخاي بن تسور صاحب فكرة إنشاء شبكات تجسس في مصر، والذي أوعز بدوره للرائد أبراهام دار لدخول مصر بجواز سفر مزور لرجل أعمال بريطاني يحمل اسم جون دارلينج.
وبعد وصوله إلى مصر تلقى قائد العملية برقية تضع مجموعة من الأهداف للحيلولة دون التوصل إلى اتفاقية مصرية بريطانية، وإلى تدمير وتوتير العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وذلك من خلال استهداف المراكز الثقافية والإعلامية، والمؤسسات الاقتصادية البريطانية، وسيارات الممثلين الدبلوماسيين البريطانيين وغيرهم من الرعايا الإنجليز.
واستخدمت موجات راديو إسرائيل لنقل الرسائل إلى العملاء عبر برنامج منزلي يومي تلقوا من خلاله إشارة بدء العملية، عندما أذاع البرنامج طريقة عمل "الكيك الإنجليزي".
وفي 2 يوليو 1954م، وقعت أولى الانفجارات التخريبية، عندما انفجرت ثلاثة صناديق في مبنى البريد الرئيسي في مدينة الإسكندرية، لكنها لم تؤد إلى خسائر كبيرة وإن ألحقت فقط أضراراً طفيفة في موقع الانفجار الذي تولى التحقيقات في ملابساته الصاغ ممدوح سالم أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة.
وعثرت الشرطة في موقع الانفجار على بعض الأدلة مثل: علبة اسطوانية الشكل لمسحوق منظفات وبعد الفحص تبين أنها كانت تحتوي على مواد كيميائية وقطع صغيرة من الفوسفور الأحمر. كما تم العثور على جراب نظارة يحمل اسم محل شهير في الإسكندرية يملكه أجنبي يدعي مارون أياك.
لم يكد يمر 12 يوماً من تاريخ الحادث الأول في الإسكندرية، حتى شهدت المدينة ذاتها انفجار قنبلة في المركز الثقافي الأمريكي في 14 يوليو. وفي مساء اليوم ذاته انفجرت قنبلة آخرى في المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة.
ومن الدلائل التي عثر عليها في موقع الانفجارين، ثلاثة أجربة نظارات مماثلة لذلك الذى عثر عليه في الحادث الأول وتحتوي على بقايا مواد كيميائية.
حتى ذلك الحين لم يكن ثمة ما يشير إلى هوية مرتكبي هذه التفجيرات المتعمدة وإن حامت شبهات السلطات المصرية في حينها حول الشيوعيين و"الإخوان المسلمين".
إلا أن أولى الخيوط التي قادت إلى كشف غموض الحوادث الثلاثة والتعرف على هوية منفذيها، ظهرت بمحض الصدفة، عندما قاد الحظ العاثر أحد هؤلاء الإرهابيين للسقوط في قبضة الشرطة، أثناء استعداده لتنفيذ أحد التفجيرات التي كان سيتم تنفيذها يوم الاحتفال بالذكرى السنوية الثانية للثورة في محطة القطارات ومسرح ريفولي بالقاهرة وداري سينما "ريو ومترو" في الإسكندرية.
فقد اشتعلت إحدى المتفجرات في جيب العميل المكلف بوضع المتفجرات بدار سينما "ريو"، وصادفه بعض المارة الذين سارعوا لإنقاذه من دون أن يعرفوا نواياه، لكن رجل شرطة كان متواجداً في المكان تشكك في تصرفاته فاصطحبه إلى المستشفى بدعوى إسعافه من أثار الحريق، وهناك قال الأطباء إن جسم الشاب ملطخ بمسحوق فضي لامع وأن ثمة مسحوق مشابه في جراب نظارة يحمله في يده، ورجح الأطباء أن يكون الاشتعال ناتجاً عن تفاعل كيميائي.
وبتفتيش الشاب عثر معه على قنبلة أخرى عليها اسم مارون أياك صاحب محل النظارات. وتم اعتقال العميل واسمه فيليب ناتاسون يهودي الديانة وعمره (21 عاماً)،ليبدأ من هنا سقوط عملاء الشبكة الإرهابية الإسرائيلية تباعاً، بعد اعترافه بأنه عضو في منظمة إرهابية هي المسئولة عن التفجيرات والحرائق الغامضة في القاهرة والإسكندرية.
وبتفتيش منزله عثر على مصنع صغير للمفرقعات ومواد كيميائيه سريعة الإشتعال وقنابل حارقة جاهزة للاستخدام وأوراق توضح طريقة صنع القنابل، كما تم العثور على شرائح ميكروفيلم، تبين لاحقا أنها دخلت مصر قادمة من باريس بالتتابع بأن لصقت على ظهور طوابع البريد! وأتضح أن هذه الشرائح تحتوى على سبع وثائق عن تركيب وأستعمال القنابل الحارقة إضافة إلى شفرة لاسلكي وأشياء آخرى.
.. يتبع ..