ونضرب مثالاً ثانياً في الصفات : وهو استواء الله على عرشه فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه استوى على العرش في سبعة مواضع من كتابه كلها بلفظ ) استوى ( وبلفظ ) على العرش( وإذا رجعنا إلى الاستواء في اللغة العربية وجدناه إذا عدي بعلى لا يقتضي إلا الارتفاع والعلو، فيكون معنى قوله تعالى : ) الرحمن على العرش استوى ( (1) وأمثالها من الآيات : أنه علا على عرشه علوّاً خاصاً غير العلو العام على جميع الأكوان وهذا العلو ثابت لله تعالى على وجه الحقيقة فهو عالٍ على عرشه علوّاً يليق به عزَّ وجلَّ لا يشبه علو الإنسان على السرير، ولا علوه على الأنعام، ولا علوه على الفلك الذي ذكره الله في قوله : ) وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استوىتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ( (2). فاستواء المخلوق على شيء لا يمكن أن يماثله استواء الله على عرشه، لأن الله ليس كمثله شيء .
وقد أخطأ خطأ عظيماً من قال : إن معنى استوى على العرش استولى على العرش ، لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، ومخالف لما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم و التابعون لهم بإحسان، ومستلزم للوازم باطلة لا يمكن لمؤمن أن يتفوه بها بالنسبة لله عز وجل. والقرآن الكريم نزل باللغة العربية بلا شك كما قال الله سبحانه وتعالى : ) إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون ( (3). ومقتضى صيغة " استوى على كذا " في اللغة العربية العلو والاستقرار، بل هو معناها المطابق للفظ . فمعنى استوى على العرش أي : علا عليه علوّاً خاصاً يليق بجلاله وعظمته، فإذا فسر الاستواء بالاستيلاء فقد حرف الكلم عن مواضعه حيث نفى المعنى الذي تدل عليه لغة القرآن وهو العلو وأثبت معنى آخر باطلاً .
ثم إن السلف والتابعين لهم بإحسان مجمعون على هذا المعنى إذ لم يأت عنهم حرف واحد في تفسيره بخلاف ذلك، وإذا جاء اللفظ في القرآن والسنة ولم يرد عن السلف تفسيره بما يخالف ظاهره فالأصل أنهم أبقوه على ظاهره واعتقدوا ما يدل عليه .
فإن قال قائل : هل ورد لفظ صريح عن السلف بأنهم فسروا استوى بـ " علا " ؟
قلنا : نعم ورد ذلك عن السلف، وعلى فرض أن لا يكون ورد عنهم صريحاً فإن الأصل فيما دل عليه اللفظ في القرآن الكريم والسنة النبوية أنه باق على ما تقتضيه اللغة العربية من المعنى فيكون إثبات السلف له على هذا المعنى .
أما اللوازم الباطلة التي تلزم من فسر الاستواء بالاستيلاء فهي :
أولاً : أن العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس ملكاً لله تعالى لأن الله تعالى قال : " ) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ( (4).
وعلى هذا فلا يكون الله مستولياً على العرش قبل خلق السماوات ولا حين خلق السماوات والأرض .
ثانياً : أنه يصح التعبير بقولنا : إن الله استوى على الأرض، واستوى على أي شيء من مخلوقاته وهذا بلا شك ولا ريب معنى باطل لا يليق بالله عز وجل .
ثالثاً : أنه تحريف للكلم عن مواضعه .
رابعاً : أنه مخالف لإجماع السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وخلاصةُ الكلام في هذا النوع - توحيد الأسماء والصفات - أنه يجب علينا أن نثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات على وجه الحقيقة من غير تحريف، ولا تعطيل ولا تكييف، ولا تمثيل .
( 2 ) وسئل فضيلة الشيخ : هل الإيمان هو التوحيد ؟
فأجاب حفظه الله بقوله : التوحيد : " إفراد الله عز وجل بما يختص به ويجب له " . والإيمان هو " التصديق المتضمن للقبول والإذعان " .
وبينهما عموم وخصوص فكل موحد مؤمن وكل مؤمن موحد بالمعنى العام .
ولكن أحياناً يكون التوحيد أخص من الإيمان، والإيمان أخص من التوحيد . والله أعلم .
( 3 ) وسئل فضيلته : عن شرك المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب قائلاً: بالنسبة لشرك المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس شركاً في الربوبية، لأن القرآن الكريم يدلُّ على أنهم إنما كانوا يشركون في العبادة فقط .
(4) سورة الأعراف، الآية " 54" .
أما في الربوبية فيؤمنون بأن الله وحده هو الربٌّ، وأنه مُجيبُ دعوة المضطرين، وأنه هو الذي يكشف السوء إلى غير ذلك مما ذكر الله عنهم من إقرارهم بربوبية الله عز وجل وحده .ولكنهم كانوا مشركين بالعبادة يعبدون غير الله معه، وهذا شرك مخرج عن الملة، لأن التوحيد هو عبارة - حسب دلالة اللفظ - عن جعل الشيء واحداً، والله - تبارك وتعالى - له حقوق يجب أن يفرد بها وهذه الحقوق تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1 . حقوق ملك .
2 . حقوق عبادة .
3 . حقوق أسماء وصفات .
ولهذا قسم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة .
فأما توحيد الربوبية : فهو إفراد الله تبارك وتعالى بالخلق والملك والأمر، كما قال الله تعالى : ) ألا له الخلق والأمر ( (1). فالخلق والأمر- وهو التدبير- هو الربوبية وهو مختص بالله عز وجل فلا خالق إلا الله ولا مالك ولا مدبر إلا الله عز وجل .
وأمَّا توحيد الأسماء والصفات : فهو إفراد الله تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته بحيث يؤمن العبد بما أثبت الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه الذي أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الوجه اللائق به من غير إثبات مثيل له، لأن إثبات المثيل لله تعالى شرك به .
وأما توحيد العبادة : فهو إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة، بمعنى أن تعبد الله مخلصاً له الدين، لقوله تعالى : ) قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين ( (2). فالمشركون إنما أشركوا في هذا القسم، قسم العبادة حيث كانوا يعبدون مع الله غيره، وقد قال الله تبارك وتعالى :
)واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ( (3) . أي في عبادته .
وقال تعالى : ) إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( (4) .
وقال تعالى : ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( (5).
وقال تعالى : ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( (6).
وقال تعالى في سورة الإخلاص

قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم . ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين((7).
وقولي : في سورة الإخلاص يعني إخلاص العمل فهي سورة إخلاص العمل وإن كانت تسمى سورة الكافرون لكنها في الحقيقة سورة إخلاص عملي كما أن سورة ) قل هو الله أحد ( سورة إخلاص علمي وعقيدة . والله الموفق .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة فاطر، الآية " 3" .
(2) سورة النحل، الآية " 17".
(3) سورة الصافات، الآية " 96" .
(4) سورة المؤمنون، الآية " 14" .
(2) سورة الملك، الآية " ا " .
(3) سورة المؤمنون، الآية " 88" .
(4) سورة النور، الآية " 61 " .
(5) سورة المؤمنون، الآية " 6"
(6) سورة النساء، الآية " 5" .
(1) سورة الأعراف، الآية " 54" .
(2) سورة المائدة، الآية " 72" .
(1) سورة المائدة، الآية " 64" .
(2) سورة الشورى، الآية " 11 " .
(3) سورة الأعراف، الآية " 33" .
(4) سورة الإسراء، الآية " 11" .
(5) سورة الشورى، الآية " 74".
(6) سورة النحل، الآية " 74" .
(1) سورة طه، الآية " 5 " .
(2) سورة الزخرف، الآيات " 13، 14، 15 " .
(3) سورة الزخرف، الآية " 3" .
(1) سورة الأعراف، الآية " 54" .
(2) سورة الزمر، الآية " 11 " .
(3) سورة النساء، الآية " 36 " .
(4) سورة المائدة، الآية " 72 " .
(5) سورة النساء ، الآية " 48 " .
(6) سورة غافر، الآية " 60 " .
(7) سورة الكاوفرن، الآيات " 1-6"