الذاكرة المثقوبة
الذاكرة المثقوبة
زحفت عليه السنون ورمته على رصيف الزمن ، ينتظر الحافلة التي ستنقله الى ضاحية المدينة حيث يقيم إبنه ، لولا هذه الزيارات العائلية التي يقوم بها من حين لأبناءه لما إستطاع أن يقاوم إعصار العمر، في عقده السابع ما زال يحاول إثبات عكس ذالك ، لم تبقى منه سوى هذه الروح الشابة ، أما الجسد فتحول الى أطلال إنسان يرفض كل ترميم .
ظهر على وجوه المنتظرين القلق والملل ، في حين لم يكترث صاحبنا للوقت الضائع ، فقد أهدر سنوات عديدة من عمره في المحطات وعلى أرصفة الإنتظار ، الوجوه المحيطة به تملأها الحيوية والنشاط وتفيض منها الطموحات والآمال في هذه الحياة ، يتذكر صالح تلك الأيام التي قضاها يعمل ويصارع طواحين بشرية ، عزاؤه الوحيد أنه خرج من الدوامة بأقل الخسائر،
تزوج أبناءه وأضحى وحيدا يعيش على منحة التقاعد الضئيلة ، فقد كان موظفا نزيها يؤمن بالحكم والأمثال ويعرف بأن القناعة كنزا لايفنى والبركة في القليل ، لقد تعرض كثيرا الى إنتقاد مسؤوليه وفي آخر مشواره لم يكن راضيا على منهجه في الحياة ، زملأوه حصلوا على مكاسب عديدة ويعيشون حاليا في نعيم ،لو كانت حياته سبورة لمسحها وبدأ من جديد ولكن ما فات لن يعود .
وفيما هو منشغل بهواجس السنين إذ بالحافلة تأتي ، فركب بفضل دفع الآخرين له ، ووجد نفسه شيخا واقفا في الوسط، أخد يتأمل الشباب الجالسين ، منتظرا إلتفاتة منهم ، في حين كان هؤلاء متفقين ضمنيا على عدم النهوض ، فهذا يتظاهر بالإرهاق والآخر بالنوم وآخر لا ينهض مفضلا ممارسة سلوك حضاري أهم وهو المطالعة ، في حين فضل آخرون ممارسة سلوك محلي وهو المعاكسة، بعد دقائق إستيقظ ضمير أحدهم ودعاه للجلوس مكانه ، حدث نفسه ، ربما ما زالت الأمثال والحكم تسيطر عليه .
بدأت الحافلة وهي تشق الطريق، تدور يمينا ويسارا ، تتجاوز وتتوقف كالمرء طوال الحياة يواجه الصعاب ويتحدى المشاكل .
على يمينه تجلس عجوز بلغت من العمر عتيا ومازالت مولعة بتأمل الأشجار على حافة الطريق وأمامه يتموقع شيخ قصير أسمر البشرة ، يضع على عينيه نظارة سوداء والشيب تجاوز مرحلة الغزو الى الإستيطان ، تلك التجاعيد المختلفة الأشكال والإتجاهات رسمت مسار عمره وحددت نهايته ، حتى ثيابه بدت مثقلة بنكبات الأيام ، ماعدا حذاءه الذي ظهر صامدا أما المعطف ففي طريقه الى الإستسلام ، بجواره شاب في مقتبل العمر طويل القامة يملأ مقعده ويضع ما تبقى
من جسمه على حافة النافذة ، وجهه صافي وخداه مكتنزان والشعر يتمتع بإستقلاله وسيادته ولم تطأه شعرة شيب ، عيناه شاخصتان ونظراته ثاقبة توحي بأنه في طريقه الى تولي منصب هام بالرغم من ذالك التناقض الصارخ بين صاحب النظارات والشاب إلا أن الملامح توحي بوجود قرابة بين الطرفين .
بالنسبة له ، الناس مجرد لوحات بشرية مختلفة ، يتفحصها يوميا ويصنفها ويوقعها ثم يرمي بها في أعماق متحف يدعى الذاكرة المثقوبة .
لكن هذا الشخص الذي يجلس أمامه يرفض دخول المتحف وظل يرقص مع ماضيه الكئيب ،
أوقف العزف وتفرس في الرجل من جديد ، لم يفهم الماضي شيئا ولكن سرعان ما عرفه إنه هو بعينه المدير العام الذي عمل معه منذ سنوات ن لقد كان رجلا مهما يمثل كل شيء واضحى الآن كومة بشرية قديمة ، سيرمى بها حتما في محطة ما ، إنه فرعون أغرقته الأيام ، لم يكن أحد يجرؤ على مواجهته، ينهي ويأمر ويعزف بالقانون كما يشاء ، كانت الشركة بالنسبة إليه رقعة شطرنج أما العمال فمجرد قطع ينقلها أو يقضي عليها في أي وقت تريد ولكنه لم يتوقع حركة قاضية من مجنون يدعى الزمان ، لا ينسى صالح تلك الإهانات والتجريحات التي تلقاها منه ، هل ينتقم منه في خريف العمر.
ما إن تتوقف الحافلة سيدفعه بقوة ، ليسقط ويتخلص منه الى الأبد ، ثم تساءل في أعماقه من أين له هذه القوة التي سيدفعه بها ، بالرغم من إقتناعه بعدم قدرته على فعل شيء ما ، إلا أن نزعة الإنتقام ما زالت تراود روحه الشابة وفيما هو غارق في خططه الفاشلة مسبقا ، إذ بالحافلة تصل محطتها الأخيرة ، قفز الشباب من أماكنهم بسرعة قبل توقفها في حين فضل الشيوخ إنتظار توقفها التام.
ما إن وضع الشيخ صالح قدميه على الرصيف تبخرت أفكاره الجهنمية وإستغرب كيف سولت له نفسه التفكير في أمور غير منطقية ، في هذه الأثناء كان الرجل المهم –سابقا-يقطع الطريق بمساعدة إبنه ، لقد إستحوذ طوال حياته على متعة التسلط والإستبداد وحرمه الله في آخر أيامه من نعمة البصر .
عندما إقترب من بيت إبنه ،هرعت نحوه حفيدته الصغيرة من بعيد ، أراد أن يلتقطها بين يديه بسرعة ولكنه تريث حتى قفزت إليه حتى لا يتعب في الإنحناء إليها .
- لايوجد أحد هنا ن كلهم في المستشفى ، لقد أصبح لي أخ جديد إسمه موسى
فرح بالخبر وتراءت له في ذهنه تلك المحطات والمواقف التي تنتظر حفبده الجديد ، وتساءل ، أي فرعون سيواجه موسى الجديد ؟
__________________
ليست العظمة في أن لا تسقط ، ولكن العظمة في أن تسقط وتنهض من جديد.
|