مصر تضع النيل والاهرامات وقناة السويس في المزاد العلني
تميم منصور
لم تترك التطورات والاحداث شهر تموز يوليو بحاله . فقد دأبت على غزوه دائماً حتى زادت من لهيبه الجغرافي والسياسي ، تقف في مقدمة هذه الاحداث في الثلاثة قرون الماضيه وقوع ثورات كثيره في هذا الشهر في أكثر من قطر واحد في العالم غيرت هذه الثورات مسار التاريخ .
في مقدمة هذه الثورات الثوره الفرنسيه التي قامت يوم
14- 7 – 1789 في هذا اليوم خرجت مبادئها الثلاثه وهي ــ الحريه ، الاخاء ، والمساواه من قمقم العبوديه بهدم سجن الباستيل رمز هذه العبوديه .
احتضن شهر تموز يوليو ثورتان عربيتان هامتان احداهما وقعت في العراق يوم 14- 7 – 1958 . اطاحت هذه الثوره بالنظام الملكي الهاشمي ببغداد . سبقتها ثوره قامت بمصر يوم 23 – 7 – 1952 بقيادة الرئيس الخالد جمال عبد الناصر ومجموعه من الضباط الاحرار .
في هذه الأيام تصادف الذكرى الخامسه والخمسين لقيام هذه الثوره وهنا لا بد من طرح سؤال ــ ماذا بقي منها وكيف يتعامل النظام الحالي في مصر خاصةً والشعب عامةً مع هذا الحدث التاريخي ؟؟؟
جرت محاولات ولا تزال لطمس وتغييب وحجب وجه هذه الثوره عن الشعب المصري والشعوب العربيه بهدف شطبها من ذاكرة الاجيال التي عاشت معها والاجيال الحاليه ومن ذاكرة التاريخ . لأن اعدائها لا زالوا يعتبرونها كابوساً يطاردهم . انهم لا زالوا يخشون وهجها . انهم على قناعه بأنهم كلما تنكروا لها يتضاعف رصيدهم وولائهم للقوى الامبرياليه التي تصدت للثوره منذ قيامها وحاولت اجهاضها ومحاصرتها خلال العدوان الثلاثي وعدوان 1967 وردة السادات سنة 1977 .لا ننكر أن هذه القوى في غفله من التاريخ استطاعت خلال الثلاثة عقود الماضيه من ازاحة جزءاً كبيراً من صورة وتقاسيم الثوره وهويتها من أذهان قطاعاً كبيراً من أبناء الشعب المصري أما عن طريق تشويه معالمها أو بواسطة تحريف أهدافها . منعت وصولها الى اذهان الطلبه في المدارس والجامعات بعد ان شطبت غالبية انجازاتها من مناهج التعليم خاصةً في موضوعي العلوم السياسيه والتاريخ الحديث . اي أن الاجيال الحاليه التي ولدت وعاشت بعد رحيل عبد الناصر لم تأخذ ما به الكفايه من زاد الثوره الوطني والسياسي والفكري لأنه حتى اليوم يوجد حصاراً منهجياً لتاريخ هذه الثوره الحقيقي .ذهلتُ من ضحالة المعلومات عن تاريخ الثوره وانجازاتها لدى العديد من المثقفين المصريين ومن بينهم مدرسين لكن ادركت أن العله ليست فقط بالتوجيه المعنوي والوطني والسياسي داخل الشارع المصري فقط وجدت ان العله تقبع في مناهج التعليم في المدارس المصريه خاصةً في موضوع التاريخ . اتضح لي أن الثوره الناصريه غير حاضره في هذه المناهج باستثناء المعلومات السلبيه الكاذبه المزيفه المليئه بالتحريض والتي لا تربط بين انجازات الثوره وقيادتها كأن بريطانيا واسرائيل قاما بهذه الانجازات .علمت وقرأت بهذه المناهج انها كانت مزوره ومعاديه منذ ردة السادات ومحاولته احتواء احداثها . هناك طعن وانتقاد قاتل لأنجازاتها العملاقه مثل تأميم المؤسسات الاجنبيه ، الاصلاح الزراعي ، بناء السد العالي ، تأميم قناة السويس ، اقامة المعاهد التعليميه العليا والمدارس المهنيه ، تحرير المرأه ، ودور الثوره في انبعاث اليقظه القوميه والفكريه لدى الشعب المصري .المناهج المذكوره تمنح القدسيه الكامله للرئيس مبارك وتنعته بألقاب خاصه مثل صقر الثوره ، وطيارها الأول ، ودوره في حرب السادس من اوكتوبر سنة 1973 كأن جمال عبد الناصر لم يبني الجيش المصري على اسس قوميه وعلميه بعد نكسة 1967 كما يؤكد ذلك أحد ضباط الثوره جمال حماد . المناهج التعليميه المصريه تتحدث عن السلام مع اسرائيل والانفتاح على الغرب أكثر مما تتحدث عن الثوره وانجازاتها . اذاً كيف يعيش الشباب في مصر مع ذكرى هذه الثوره وهم غرباء عنها ؟؟
لم تأتِ الثوره المصريه سنة 1952 من فراغ لقد كان السفي البريطاني في القاهره يعبث بمقدرات الشعب المصري بالتعاون مع النظام الفاسد فيها وهنا يحضرني ما قاله عميد الأدب العربي طه حسين وهو يصف أحد اعوان الملك ويدعى عبد الفتاح عمر : أنه يصلح سفيراً لانجلترا في مصر أكثر مما يصلح سفيراً لمصر في انجلترا .هذا يؤكد أن مصر كانت تمر في حاله من الغيبوبه التاريخيه أي بين الموت والحياه ، المحسوبيه والفساد ، الاقطاع والفقر ، الجهل والمرض والأميه تنهش جسد الشعب المصري اضافةً الى العواصف التي كانت تحول دون الاستقرار والتطور . الاحزاب السياسيه التقليديه التي تمثل الطبقه الحاكمه تناطح بعضها البعض بدلاً من محاربة الانجليز والملك والفساد .اذا كان لا بد من ثوره لبناء الوطن على أسس سليمه تعيد الحياه والكرامه الى الشعب المصري وهذا ما حدث . فسرعان ما تحول الانقلاب العسكري في صبيحة 23 تموز 1952 الى ثوره وطنيه شامله وصلت انجازاتها الى كل بيت في مصر . المزارع تحول من تابع الى سيد نفسه . وخلال فتره وجيزه ظهرت طبقه من العمال المثقفين يشغلون ويديرون مئات المصانع . التعليم الثانوي والجامعي المجاني دق جميع ابواب بيوت المصريين بعد ان كان محصوراً لأولاد الذوات .
نجحت الثوره بتحرير جميع المرافق الاقتصاديه من كل اشكال الهيمنه . من هنا فأن شعبية عبد الناصر التي حاولوا مصادرتها لم تأتِ من فراغ او بسبب الارهاب والترويج والخداع انما استمدها من كونه بطلاً حقيقياً مصرياً وعربياً وعالمياً مناضلاً شجاعاً شريفاً عفيفاً لم يغتصب شيء لنفسه . لماذا لا يعترف النظام الحالي في مصر وجميع دهاقنة السياسه داخل العواصم العربيه ان الجماهير العربيه في كل مكان منحت عبد الناصر تأييداً اسطورياً وثقةً كامله ومحبه لا نظير لها . أليس من حق الأجيال الحاليه في مصر معرفة هذه الحقيقه ؟
كشف استطلاعٌ قامت به مجلة صباح الخير المصريه في السنه الماضيه لمعرفة الشعبيه التي تمتع بها كل من عبد الناصر والسادات ومبارك بين طلاب الجامعات كانت نتيجة الاستطلاع ان حصل السادات على ثقة 7% فقط وحصل جمال عبد الناصر على تأييد حوالي 84 % أما مبارك فلم يحصل على شيء .
لقد منع عبد الناصر التعدديه الحزبيه لأن 95 % من أبناء الشعب المصري كانوا مسحوقين وأميين ومستعبدين . بلغ عدد عمال التراحيل في ذلك الوقت حوالي 750 الف عامل أجرة الواحد منهم عشرة قروش في اليوم يعملون في السنه ثلاثة أشهر . هل بالامكان اشغال هؤلاء العراه الفقراء بالتعدديه الحزبيه وفساد وصراع الاحزاب كان الحصول على الرغيف ومصل الدواء وكراس التعليم من أولويات ما يتمناه المواطن المصري فقامت الثوره لتقديمها مجاناً .
نــــعم منع عبد الناصر التعدديه الحزبيه لكنه لم يمانع تعددية الاراء والاتجاهات والاجتهادات .
لم يمنع حتى انتقاد النظام . الصحفيون اللذين وجهوا الانتقاد لعبد الناصر بعد رحيله كانوا أكثر الناس حريةً في الكتابه اضافةً الى أدباء وكتاب أخرين . مثل روايات ومسرحيات نجيب محفوظ ، توفيق الحكيم ، يوسف ادريس ، سعد الدين وهبه ، رشاد رشدي ، ثروت اباظه ، وعبد الرحمن الشرقاوي . هذه المسرحيات الناقده صدرت زمن عبد الناصر . منها ما تحول الى مسرحيات سينمائيه على حساب الدوله مثل مسرحية الشرقاوي ( الفتى مهران ) التي كانت تنتقد تورط مصر في حرب اليمن . كانت الكتب ميسره للناس تطبع وتنشر على حساب الدوله وتباع باسعار رمزيه.
نحن مع النقد والتقييم الموضوعي لكن الحمله التي بدأها السادات والمرتدين عن الثوره كانت تهدف الى المس بشخص عبد الناصر وهدم ما بنته الثوره لأرضاء الولايات المتحده واسرائيل .
قال النبوي اسماعيل وزير الداخليه المصري زمن السادات امام شاشة التلفزه المصريه بمناسبة أعياد الثوره : أن اسرائيل اشترطت على السادات اعتقال جميع العناصر الوطنيه التي تعارض اتفاق كامب ديفيد فقام السادات باعتقال حوالي 1500 مواطن من كتاب وصحفيين ومفكرين
وغيرهم كان اعوان السادت بتصفية مكاسب الثوره بهدف الالتفاف على شعبية عبد الناصر لكنهم فشلوا .
التاريخ يقف اليوم خجولاً من ثورة يوليو المصريه بسبب الاعتداء على مسالكها ومحاولة مسخ انجازاتها . التاريخ يخجل لأن الأمل والتفاؤل والعزيمه والكرامه والتحول الذي وفرته هذه الثوره للمواطن المصري حاولوا دفنه بعد رحيل عبد الناصر .
تحل ذكرى الثوره اليوم لتجد مصراً أخرى لقد غابت مصر التحديات والمواجهه والكرامه . تحل هذه الذكرى لتجد مصر عطشى بالانتاج والمشاريع الاقتصاديه عطشى بالماء مع انها جالسه على ضفاف النيل هبة مصر الاسطوريه . كل التقارير تؤكد ان مصر عطشى رغم السد العالي والنيل وبحيرة ناصر بسبب الفساد والمحسوبيه والصراعات الداخليه وفشل الحزب الحاكم ، عاد المواطنون يستخدمون مياه الترع المليئه بالبلهارتسيا في الدلتا والصعيد لأن وزارة الري غائبه من ارض وسماء مصر . هذا يحدث والحكومه المصريه بتصفية وبيع عقارات وأملاك الدوله التي اقامتها الثوره من بنوك وشركات ومصانع وغيرها . لقد تمت تصفية ثلاثة بنوك كما تمت تصفية مصانع القطاع العام الرئيسيه في مقدمتها مصانع الغزل والنسيج ومصانع الكيماويات والحديد والصلب .
الدوله التي تفرط بمقدراتها تراهن على وجودها ما تقوم به المؤسسه الحاكمه اليوم في مصر تذكرنا بما قام به الخديوي اسماعيل الذي حكم مصر من سنة 1854 الى 1879 لقد أغرق مصر بالديون أثناء حكمه استدانها من بيوت المال الأوروبيه بسبب فشل مشاريعه الاقتصاديه وبسبب القصور التي اقامها وحياة الترف والبذخ التي عاشها . تحولت هذه الديون الى طوق ألتف حول عنقه فلم تترك له بريطانيا الا منفذاً واحداً يتنفس منه وهو بيع حصة مصر بقناة السويس فقام ببيعها . هذا ما يفعله اليوم النظام في مصر ان عهد الخديوي اسماعيل يعود الى ارض الكنانه بعد أن قامت الثوره بتخليص الشعب المصري من الرواسب التي خلفتها أسرة محمد علي باشا ، النظام في مصر اليوم يجهز على ما تبقى من الثوره ولم يبقى امامه سوى وضع الاهرامات والنيل وقناة السويس في المزاد العلني .