صباح آخر
صباح آخر
بكلّ المقاييس كان ذاك الصباح صباحاً عادياً. لا يختلف عن غيره من الصباحات التي كانت تتكرّر مع مطلع كلّ يوم، من غير أن يشعر المرء بها، أو يدرك أن عمره قد نقص يوماً آخر، فلم يكن حاراً ولا بارداً، ولم يك غائماً ولا صحواً، بحيث كان بإمكانه أن يمضي كغيره من الصباحات الباهتة التي لا لون لها ولا طعم، إذ أن خصوصية بعض الأيام مُستمدّة من الأحداث التي تلوح في أفقها، وتلوّنها بلونها، فلماذا اختارت أمه الرحيل في مُستهلّ ذلك الصباح من غير أن تزعج أحداً . لماذا مضت بهدوء طيف من تلك الطيوف الكثيرة التي تمرّ بهذه الفانية من غير أن ينتبه إليها أحد ؟ فلم يضطرب أو يصرخ. بل رحلت بلا تشبّث أو ضجيج. ليغيب مخلوق آخر من تلك المخلوقات التي يمتلئ العالم بها من غير أن يشكو منها أو يتأففّ !؟ ربّما لأنها بسيطة، متفانية، ومتواضعة في أحلامها، هذا إن لم تكن تلك الأحلام في الأصل مُنصبّة على أحبتّها من أخوات أو أولاد أو بنات أو أقارب، حتى أنّ موتها بدا كحدث عادي مُنتظر، إذْ لم يكن ثمة نواح زائد. ولم يكن ثمة ضجّة. لكن الأمر لم يخلُ من شعور بسيط بالذنب. ربما لأن المسكينة رحلت من غير أن يراها الطبيب ! صحيح أنّها لم تكُن تشكو من شيئء ، ولكن حالتها كانت واضحة لهم، وكانوا يرونها تدنو من منيّتها حثيثاً . كان هذا بينّاً في التهدّم الذي طال جسدها فجأة، وراح يعمل فيه كمعول حاد، في الذهول العميم الذي خيمّ على روحها وعقلها، في النوم القصير الذي كان يباغتها وقوفاً أو جلوساً. وفي أيّ وقت ، في الأحاسيس المرهونة لصالح ماض متسارع، والتي لم يعد يحرّكها شيء ـ اللهمّ ـ عدا تلك اللحظات القصيرة المتباعدة التي كان الصغيران يلجآن ـ فيها ـ لمداعبتها، وفي الذاكرة الملتاثة التي اختلطت فيها الأيام والأرقام والحوادث والتآريخ. لكنهم لم يعرضوها على طبيب، ومن غير أن تناقش حالتها إستقر الرأي ، على أنّ الحيّ أبقى من الميت، وأنّ ما يُصرف عليها بغير فائدة قد يسدّ أفواها إلى حين . لم يكن تواطؤاً مُعلناً،بل كان نوعاً من الإجماع الُمضمر بأنّ دورها على المسرح قد انتهى. إجماع مقروء في عيون الجميع يداري بأن شعوراً كهذا لا يليق بالإنسان . وعليه فقد انقضت أيام المأتم بهدوء، إذْ أنهم كانوا يعلمون بما يضمرون ، فتحرّجوا من الموت ذاته في إحداث ضجة زائدة. ومن الماضي المتعرّج كلّه ظلتّ صورة واحدة تلّح على الذاكرة بإصرار، كانت تلك صورة الصبية البهيّة ـ التي كانَتْها أمه يوماً ما وهي تضمه في حظيرة الأغنام بقوة . وكان ذلك صباح يوم نقلتهم فيه شاحنة إلى المدينة . .
متحسّراً، مكفكفاً بداية إجهاش جاش في الصدر همس ، إنّا لله، وإنّا إليه لراجعون.
وقال ، لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلاّ به. ما مضى قد مضى، وما علينا إلاّ أن نعيد ترتيب أمورنا، ولكن كيف، ومتى !؟
وارتدّت الذاكرة إلى الماضي، صوب تلك السنوات التي أمضاها هناك في تلك "البادية" الشاسعة مع الفلاحين والنسوة و"الأغنام". ولكن أليس هؤلاء هم الناس الذين عاش معهم تلك الطقوس الرائعة المرافقة لذبح الخراف والماعز ليضفى على القرية جوّ من الأريحية والكرم، ويأكل الجميع من اللحم ما لذّ وطاب، ثمّ يُملّح الباقي بشحمه، ويوضع على النار من دون ماء حتى يتحوّل إلى "قديد"، فيرفعونها في صفائح أو دنان لأيام الشتاء الشحيحة... أمّا إذا استمرّ الأزرق بغير منازع، ولم تتلبّد السماء بالغيوم الداكنة،تطيّر الفلاحون من تلك الهبّة الجافة لرياح الشمال الباردة، وخرجوا وربما عمدوا إلى التلّة بثيابهم التي ارتدوها بصورة معكوسة، يتقّدمهم إمام المسجد، وراحوا يتضرّعون إلى الله في طلب المطر، فإن تصادف خروجهم مع غيوم آخذة بالتلبّد، خرج الأولاد حاملين دمية خشبية تمثّل عروس المطر، و أنشأوا يهزجون ، يا مطر صبي صبي ، صبي على رأس القبي ... وهم يرجون من الله مطراً.
وعندما يجتمع لديهم ما يكفي من دقيق الشعير ،كانت إحدى النسوة تجهزها بالسمن لهم، فيأكلونها فوق البيادر.بكل المقاييس لم يكن ذلك الصباح صباحا غير عادي ، و إن إختلفت الصور...وتغيرت الخلائق.
|