سبب الجريمة.. الحلقة (13)
تابع.. الإيمان أساس الأمن والخير..
هذا، وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه القرآن الكريم، من أن الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر، سبب في فعل الطاعة وفعل الخير، والبعد عن المعصية والشر، وهي كثيرة جداً نكتفي بالإشارة إلى بعضها..
روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جارة.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت )ـ وفي رواية: (
فليكرم جاره بدل: فلا يؤذي جاره). [البخاري (7/78ـ79) ومسلم (1/68،2/1091)
فقوله صلى الله عليه وسلم:
(
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. ) ثم أمره ببعض تلك الصفات ونهيه عن بعضها دليل أن الإيمان يقتضيها، وأنها ناشئة عنه، ومعلوم أن الإيذاء لا يجوز لأحد سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن
وفي حديث أنس، رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ـ أو قال لجاره ـ ما يحب لنفسه ). [البخاري (1/8) ومسلم (1/67)].
فنفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، دليل على أن الإيمان يقتضي تلك المحبة، وأن المؤمن لا يدعه إيمانه يسعى في إيصال الشر إلى الناس؛ لأنه لا يحب الشر لنفسه، وإنما يحب لنفسه الخير، والخير الذي يحبه لنفسه يحبه لغيره؛ لأنه ناشئ من إيمانه.
هذا وليعلم أن نفي الإيمان عن المرء بسبب عدم قيامه ببعض الواجبات التي يقتضيها الإيمان، أو ارتكابه بعض المعاصي التي يقتضي الإيمان تركها، لا يراد به نفي أصل الإيمان، بحيث يصير لا إيمان له مطلقاً..
وإنما المراد نفي كمال الإيمان الواجب، بدليل ما ورد من النصوص التي تتضمن خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار ودخوله الجنة..
مثل حديث أبي ذر، رضي الله عنه، قال:
إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ..
فجلست إليه فقال: (
ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )..
قلت:
وإن زنى، وإن سرق؟
قال: (
وإن زنى وإن سرق ) ثلاثاً..
ثم قال في الرابعة: (
على رغم أنف أبي ذر )
قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: "
وإن رغم أنف أبي ذر". [مسلم (1/95)].
وغير هذا الحديث مما يدل على أن نفي الإيمان بترك بعض الطاعات أو ارتكاب بعض المعاصي، لا يراد منه نفيه كله، وإنما يراد منه نفي كماله الواجب.
وقد نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن ارتكب ما ذكر في حديث أبي ذر، ولكنه قيد النفي بوقت ارتكابه المعصية كما سيأتي ذلك إن شاء الله. [والحديث في البخاري (3/106) ومسلم (1/76)].
ومما يدل أنه لا يراد نفي أصل الإيمان حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء، وإن كان صادقاً ).. [أحمد (2/352) وراجع جامع العلوم والحكم لابن رجب ص: 103].
فقوله: (
لا يؤمن الإيمان كله ) يدل على أن المنفي هو كمال الإيمان الواجب، لا الإيمان كله، ولا كماله المندوب.
ومن الأحاديث الواضحة في أن الإيمان سبب في فعل الخير وإيصاله إلى الناس وكف شره عنهم..
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ). [البخاري (5/110) ومسلم (2/741)].
فسلامة الناس من لسان المسلم ويده ناشئة عن إسلامه.. والإسلام إذا أطلق شمل الإيمان، كما أن الإيمان إذا أطلق شمل الإسلام، وهجر ما نهى الله عنه يشمل كل ضرر سواء أكان بمنع حق أو الاعتداء على حق.
وإذا كان الإيمان قوياً في المرء، قوي ائتمان الناس له وأعلى الناس إيماناً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ائتمنه الله على وحيه ورسالته، فكان أجدر بأن يأتمنه الناس..
كما روى أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه:
أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (
ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء ). [البخاري (5/110) ومسلم (2/741)].
وكلما كان الناس أرجى في خير المؤمن وأمنهم من شره، كان ذلك دليلاً أنه خيرهم، وكلما كانوا أبعد عن رجاء خيره وأمن شره، كان ذلك دليلاً أنه شرهم..
كما روى أبو هريرة رضى الله عنه:
أنه صلى الله عليه وسلم وقف على أناس جلوس..
فقال: (
ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ )..
قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات..
فقال رجل:
بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا..
قال: (
خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره ). [الترمذي (4/528) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وجعل صلى الله عليه وسلم دليل إسلام المرء سلامة الناس من لسانه ويده..
كما جعل دليل الإيمان أمن الناس منه على دمائهم وأموالهم..
كما روى أبو هريرة، رضى الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ). [الترمذي (5/17) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
وفي هذا الحديث إشارة لطيفة، وهى أن الأصل في الإيمان عدم اطلاع الناس عليه؛ لأن أصله القلب..
والأصل في الإسلام أن يطلع عليه الناس لأنه الأعمال الظاهرة.. كما دل عليه حديث جبريل..
فجعل أعمال المرء الظاهرة دليلاً على إسلامه، وهى سلامتهم من لسانه ويده..
وجعل ائتمان الناس له على دمائهم وأموالهم دليلاً على إيمانه..
والغالب أن الناس لا يأمنون المرء إلا إذا جربوه فعلموا أنه يؤدى إليهم حقوقهم، ولو لم يكن بينهم وبينه إلا الله تعالى، كالأمانات ونحوها..
فجعل صلى الله عليه وسلم لكل من اللفظين:
الإسلام والإيمان من اسمه نصيباً..
فالإسلام يستلزم أن يسلم الناس من أذى صاحبه..
والإيمان يستلزم أن يأمن الناس صاحبه على حقوقهم.
ولو أراد الباحث أن يتتبع أثر الإيمان في سلوك العبد المؤمن المتقيد بأمر الله ونهيه، لطال به المقام واتسع المجال؛ لأن لكل ركن من أركان الإيمان أثره في حياة المؤمن وسلوكه، بل وفي كل فرع من فروع تلك الأركان..
ولهذا نكتفي ببيان أثر الإيمان في الجملة.. في الحلقة القادمة إن شاء الله..
موقع الروضة الإسلامي..
http://216.7.163.121/r.php?show=home...enu&sub0=start