رمضان.. محطة سفر إلى الجنة(14) عَمَّن تُصَفَّد الشياطين؟
رمضان محطة سفر إلى الجنة.. (14)
عَمَّنْ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ؟
روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان رمضان، فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ). [البخاري (1800) ومسلم (1079) واللفظ له].
وساقه الإمام أحمد، بلفظ: ( قد جاءكم رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها.. ) [المسند (7148)]..
وسياق النسائي قريب من سياق الإمام أحمد. [سنن النسائي (2106)].
ورواه الحاكم بلفظ: ( إذا كان أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار ). [المستدرك على الصحيحين (1532) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق].
ورواه الترمذي بنفس السياق، إلا انه زاد بعد قوله: ( ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة ) [سنن الترمذي (682)].
في هذه الأحاديث ثلاث مسائل رئيسة:
المسألة الأولى: أن الله يفتح في أول ليلة من شهر رمضان أبواب الرحمة، أو الجنة.
المسألة الثانية: أنه تعالى يغلق أبواب جهنم.
المسألة الثالثة: أنه يسلسل الشياطين، ومردة الجن.
وسنبدأ في هذه الحلقة بالمسألة الثالثة ( تصفيد الشياطين ) ولسنا نريد الدخول فيما قيل من أن تصفيدهم وسلسلتهم، حقيقة أو مجاز..
فالمراد على كلا الرأيين، أن الله تعالى يخفف من شر الشياطين ووسوستهم في صدور المؤمنين، إعانة لهم على صيام رمضان وقيامه، والاجتهاد في الإكثار من الطاعات، ومجاهدة النفس على ترك المعاصي...
هذا هو المعنى المراد من تصفيد الشياطين... و الله اعلم.
و"التصفيد" معناه في اللغة شَدُّ الأصفاد، وهي القيود والأغلال، في أيدي المسجونين وأرجلهم... ويورد العلماء في هذه المسألة إشكالاً، وهو أن كثيراً من المسلمين، يرتكبون المعاصي في شهر رمضان الذي تصفد فيه الشياطين، وقد لا يصوم بعضهم الشهر نفسه..!!
قال الحافظ ابن حجر: "وقال القرطبي - بعد أن رجح حمله على ظاهره -: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً، فلو صفدت الشياطين، لم يقع ذلك؟
فالجواب: أنها إنما تُغَلْ عن الصائمين الصومَ الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه.. أو المصفد بعض الشياطين، وهم المردة، لا كلهم… أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية.. ". [فتح الباري (4/115)].
ويبدو أن ما ذكره القرطبي رحمه الله.. "أنها إنما تغل عن الصائمين الصومَ الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه".. هو جواب سليم.
ونحن نرى أثر تصفيد الله تعالى الشياطين في هذا الشهر، واضحة في سلوك المسلمين، كل منهم بقدر ما يبذل من الاجتهاد في طاعة الله، والبعد عن معصيته..
فالمسلم المجتهد في طاعة الله في غير رمضان، يزيد اجتهاده في رمضان..
والمسلم الذي يسدد ويقارب ويكون منه تقصير في غير رمضان، يكون في رمضان أكثر تسديداً ومقاربة، وأقل تقصيراً فيه..
والمسلم الذي يكثر فسقه في غير رمضان، يقل فسقه فيه.
أما المسلم الموغل في ترك الطاعات، المبالغ في ارتكاب الكبائر في غير رمضان، فإنه يجذبه في هذا الشهر الكريم عاملان:
العامل الأول: أجواء رمضان الإيمانية العبادية، التي يراها في عامة المسلمين، في المنازل و الأسر، وفي الشوارع والأسواق التي تختفي فيها المطاعم والمشارب في النهار، وفي المساجد والجوامع التي تمتلئ بالمصلين في الليل والنهار..
العامل الثاني: نفسه الأمارة بالسوء التي تشده إلى ما ألفته من الوقوع في حمأة الشر والفساد..
والشيطان الذي يسوس في صدره، ويغريه بالاستمرار في سلوك سبله التي كان يسلكها في غير رمضان. وشهواته التي تدعوه إلى تناول ما ألف التلذذ به منها...
وهذا الصنف من الناس، يحتاج إلى إرادة قوية، وعزم شديد، ونية صادقة، ليرجح كفة العامل الأول، واللجوء إلى الله تعالى ليعينه على التغلب على هزيمة جيوش العامل الثاني..
فإن انتصر على أعدائه نال حظه من تصفيد الشياطين، وفاز بالخير العميم في شهر رمضان، وإن هُزِم في هذه المعركة، بقي أسيراً لشيطانه ونفسه وهواه، وحرم فرص نفحات هذا الشهر الكريم..
ولمزيد من الإيضاح نقول: إن الله تعالى ذكر في كتابه، أنه أنزل كتبه السابقة، وأنزل كتابه القرآن، هدىً للناس، ولكن كثيراً من الناس، لم يهتدوا بالكتب السابقة، ولا بالقرآن الكريم..
وهذا يدل على أن من أراد الهداية في كتب الله المنزلة في عهد رسله السابقين، وجدها وعَبَد اللهَ فكان مهتدياً فعلاً..
ومن أراد الهداية في كتاب الله "القرآن" وجدها فيه وعبد الله تعالى، فكان مهتدياً بالفعل، وأن من لم يرد الهداية الموجودة في كتاب الله، لم يكن من المهتدين بالفعل، مع أنها متاحة له لو أراد....
قال تعالى: (( ألَمِ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإنجيل * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ )) [آل عمران:1-4].
فهو تعالى أنزل التوراة والإنجيل (( هُدىً لِلنَّاسِ )) في عهد موسى وعيسى، عليهما السلام، ولكن المهتدين بهما فعلاً قليل…
وقال تعالى: (( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) [البقرة:185].
وها هو القرآن الكريم قد بقي محفوظاً، يحمل الهدى لكافة الناس، ومع ذلك لم يهتد به فعلاً إلا القليل من بني البشر.. ولهذا خص سبحانه من انتفع بهذا القرآن واهتدى بهداه في آيات كثيرة..
منها قوله تعالى: (( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ )) [البقرة:2].
__________________
إرسال هذه الحلقات تم بتفويض من الدكتور عبد الله قادري الأهدل..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
|