من وحي الاشتياق (الربيع و الامل)
من وحي الاشتياق
الربيع و الأمل
و حل الربيع، و بث بالجمال في كل النواحي .. نعم حل الربيع و هدى بالأريحية للجبال.. السماء، و النهر.. فكان لابد أن يعطي الابتسامة لكل الوجوه، و الخضرة لكل الأرض .. و لكن هو، هو.. لم يتغير بل اشتد في آلامه و همومه، و كأنه جافى الربيع، و عاداه.. وحين انفرد بنفسه مع الربيع خاطبه قائلا:
- لماذا هكذا أنت أيها الربيع؟ لماذا تجافينني؟.. لماذا لا تحدث البسمة في وجهي كما أحدثتها في كل الوجوه
- لم أجافيك أنا نفس الربيع الذي يأتيك كل عام مرة.. نفس الربيع الذي تفرح و تبتسم معه كل عام.. نفس الربيع الذي تنشط معي كل عام.. لكنك لست ذلك الإنسان الذي أراك كلما احل..
كأنه اقتنع بأنه ليس هو ذلك الإنسان، و أن الربيع هو نفس الربيع..
مع الربيع دق ناقوس ماضيه فعرض عليه ذكرياته مع الأمل، ذلك الأمل الذي كان يلتقي به فيصبح عند ذلك اسعد إنسان في الحياة، فيفرح، يبتسم مع الربيع، ينشط.. و كأنه كالعاشق الولهان الذي التقى بمعشوقته التي، كان اكبر همه الالتقاء بها، لا.. لا، مجرد لقاء عابر، بل لقاء نهائي، و لا قوة في الأرض تتمكن من فصل العاشقين.. ذلك كان هو الأمل الذي يسعده و يريحه و يجعله ذلك الإنسان الذي كان يبتسم مع الربيع.. أما الآن فاللقاء بالأمل اصبح مجرد أمنية لا تتحقق مهما ناضل من اجل تحقيقها.. و ذلك الأمل مع هذا الربيع مجرد ذكرى جعلته إنسان لا يعرف معنى للربيع..
مع حلول الربيع أعادت ذكرياته لقاءاته مع الأمل، و افتتح خياله متحفا لفصول الربيع الماضية.. جولاته الربيعية.. مواعيده.. سياحته من هنا إلى هناك.. كلها أصبحت ألواحا معلقة في جدران متحف الخيال.. تجول في قاعة المتحف، و لكن كان لوحده في هذه الجولة، و لم يكن هناك أحد في تلك القاعة سواه..و هو الوحيد الذي كان يفهم تلك المعاني التي تنبعث من تلك الألواح.. هذه الجولة كانت تسحب خطواته وراء بعضها بتثاقل.. و عزف سمفونية العزاء كي يستطيع التعمق اكثر في عالم تلك الألواح المعلقة.. كان يقف طويلا أمام كل لوحة، يتمعن فيها و يستنبط منها المعاني، التي هو يريدها.. لم يود المبادرة بالإسراع من الخروج، لأنه لم يكن يدري أين سيتجه بعد هذه القاعة.. فهو الوحيد الذي لا أنيس معه..
كان صباحا عندما دخل، و الآن حل المساء.. خرج من المتحف مع الغروب.. لازال صدى سمفونية العزاء تعزف في رأسه.. لازالت أشباح الألواح المعلقة في المتحف تهتز أمام غشاء عينيه.. كان يمشي في طريقه دون أن يدرك أن الزمن و المكان يمشيان معه.. نعم فقد ألغيا من قاموسه.. فلم يكن هناك زمانا، أو مكانا.. فجأة شعر بوصوله الجسر الممتد على ذلك النهر في وسط مدينته.. فرجع الزمان و المكان ثانية.. شعر بوجودهما.. فالوقت ما بعد الغروب، و المكان هو ذلك الجسر الذي كان كلما يصل إليه يشعر و كأنه كله أمل نحو الغد.. وقف فوق الجسر وواجه ذلك النسيم من الهواء الذي يتدفق من ذلك الوادي الذي يتكون من شق ذلك الجبل العظيم الذي يحتضن المدينة.. فعندما كنت ترى بيوت المدينة من بعيد و هي تزهو في طرف الجبل الكبير، كأنك كنت تشعر بأن المدينة طفلة في حضن والدتها.. هذه الوالدة التي كانت تحافظ على سلامة طفلتها.. تيار الهواء كان يسير باتجاه تيار النهر المتدفق من الوادي، و هو بوجهه كان يعاكس التيار..
كان الوادي يبث من خلاله هواء الربيع، فجعلت الذكريات تتزاحم في خياله، و من بينها تلك اللقاءات مع الأمل على هذا الجسر مع كل ربيع.. و الهواء هو نفس الهواء الربيعي الذي كان يتنعم به في السنين الماضية، عندما كان يواجهه بابتساماته التي كانت منبعها الأمل، أما في هذا العام و هذا الربيع لم يتمكن الهواء من أن يبعث على وجهه تلك الابتسامة.. فكان من داخله ينادي و بأعلى صوته:
- أين أنت أيها الأمل؟.. لماذا لا ترافق مجيئك مع هذا الهواء السيال؟.. لماذا لم تأتي مع الربيع؟
عندها شعر و كان أمواج من الهموم تجتاحه.. اصبح رقيقا و كأنه لا يتمكن من البقاء اكثر هنا، على هذا الجسر.. أراد أن يتحرك ليترك الجسر لكنه لم يستطع.. لم يتمكن لا من التقدم و لا من التراجع.. بل كان يشعر و كأن هناك قوة تحاول أن تبقيه هنا..
تأخر كثيرا اضطر أن يجاهد نفسه ليترك الجسر.. رجع لداره، لكي يعيد ذلك العراك اليومي الشديد الذي يتركه دون نوم إلى ليل متأخر.. رجع ليعيد الكرة في هذا العراك على نية أن يتمكن فيصرع النوم.. فيحلم باللقاء بالأمل.. و عندها يتعانقان طويلا..
|