# { إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } .
كل ما سبق توطئة وتمهيد للقصة ، وتهيئة لها ولفت انتباه قبل إيرادها وسردها .
وتبدأ القصة الشائقة الماتعة الرائعة بـلا حـواش ثقيلة وبـلا تفاصيل مملة .
تبدأ ويوسف في عهد الصبا وسن الطفولة ، يستفيق ذات يوم من نومه وقد رأى رؤيا عجيبة ليقصها على أبيه النبي يعقوب عليه السلام .
رأى يوسف أن أحد عشر نجماً مع الشمس والقمر يسجدون له ، وعرف يعقوب التأويل ؛ لأن نور النبوة في قلبه ، ولم يشرح ليوسف الرؤيا لمصلحةٍ رآها ، بل وجد أن الأهم من ذلك وصيته له بكتمها وعدم إفشاءها وترك نشرها على إخوته ؛ لأنها سوف تثير عليه حسداً دفيناً وعداوة متربصة وانتقاماً مؤذياً .
وفي الآية لطف الأب مع ابنه وحنانه عليه ، وتوجيهه إلى ما ينفعه ، وتحذيره عما يسوءه ، ونجابة يوسف وذكائه مع صغره ، وعرض الرؤيا على العالم إذا كانت من المبشرات ، وترك تفسير الرؤيا إذا كان في ذلك مصلحة ، وكتم السر إذا حصل بإفشائه ضـرر ، وعليه الأثر: ( استعينوا على قضاء حوائجكم باالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسـود ) ، والحذر من الأقران ، وستر النعم إذا خشي من إظهارها عدوان عليها ، وان الشمس والقمر والنجوم في المنان عظماء أو علماء أو زعماء ، وفيه أن تفسير الرؤيا قد تتأخر سنوات عديدة وأزماناً مديدة ثم تقع بإذن الله .
وإنما قال رأيتهم لي ساجدين ، باالجمع للعقلاء ، ولم يقل ساجدات ؛ لأنه لما نسب إليها السجود وهو وصف لمن يعقل ألحقها باالعقلاء ، وهذه رؤيا ليست عادية ، بل تُنَبِئ عن مستقبل زاهر ليوسف ، وسوف يكون له مع التاريخ صولة ومع الدهر دولة ، ومع الأيام جولة ، سوف يصل إلى تحقيق هذه الرؤيا لكن عبر طريق ملؤه الشوك والضنى والمشقة والبلوى والدموع والشكوى والفراق والفجيعة والمكر والكيد والحبس والقيد والأذى والتشويه والإمتحان والصبر ، ولكن كما قال أبو الطيب المتنبي:
جزى الله المسير إليك خيراً ××× وإن ترك المطايا كـاالمزادِ
سوف تقع هذه الرؤيا كفلق الصبح ، ولكنها لن تقدم بين عشية وضحاها على طبق من ذهب ، لأن المنازل العالية والمراتب الجليلة لا يوصل إليها إلا بجهود شاقة وتكاليف باهظة وتضحيات هائلة ؛ لأن السنة اقتضت ذلك والحكمة نصت على ذلك ليكون العطاء لذيذاً ، والهبة غالية ، والثمن ضخماً راقياً .
لا يدرك المجد إلا سيد فطنٌ ××× بما يشق على السادات فعالُ
لولا المشقة ساد الناس كلهم ××× الجود يفقر والإقدام قتـالُ
وفي الوحي المقدس: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا عن نصر الله قريب } . لا والله لا يصل واصل إلى الولاية الكبرى والسعادة العظمى والعبودية الحقة إلا بجهد مبذول ، وعرق مسفوح ، ودم مسفوك ، وعرض يمزقه الحسد ، وسمعة يشوهها الجناة ، وقلب يبلغ الحنجرة من التهديد والوعيد ، وكبد حرى تشوى على جمر الإنتظار ، وقلب مفجوع بويلات المواقف ، وأهوال تشيب لها رؤوس الولدان ، حتى يختطف النصر بجدارة ، ويؤخذ الكتاب بقوة ، وينال المجد بتضحية ، وتقطف الثمرة باستحقاق ، وتعطى الجائزة بتأهل ، فآدم يأكل الشجرة ويهبط ويندم ويتوب وينكسر ثم يجتبى ويعلو ويكرم ، ونـوح ينوح من عقوق الإبن ، وشقاق المرأة ، ومحاربة قومه ، وموسى يتجرع الغصص ، ويقف تلك المواقف التي يهتز لها الكيان ويرتجف من هولها الجنان مع تهم وإيذاء ، وصـد ومنازلة ، وحـروب وإعراض وإرجـاف .
وإبراهيم يعيش حياته جهاداً في سبيل الله مع تكـذيب والده ، والأمر بذبح ابنه ، وإعراض قومه ، ووضعه في النار وملابسة الشدائد ، والمرور باالنكبات والمصائب .
وعيسى يذوق طعم الإفتراء المـر ، والأذى المتعمد ، والفقر المضني .
ثم تختتم قائمة الأنبياء وصحيفة الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتجمع له هذه النكايات جميعاً ، ليكون أعلى الكل كعباً ، وأثبتهم قدماً ، وأسعدهم حظاً ، فيموت أبوه وهو حمل ، ثم يتبعه جده وهو طفل ، ثم يلحقه عمه في زمن الضعف ، ثم تتلوه خديجة زمن النصر ، ثم يطرد من مكة طرداً ، ويشرد تشريداً مع الضرب باالحجارة ، ووضع السلى على الرأس ، مع قاموس من الشتائم بوصفه باالجنون والسحر والشعر والكذب والكهانة والإفتراء والعقوق ، والإخراج من الوطن ، وقتل الأصحاب ، وموت الأبناء ، وقذف الزوجة ، ومصاولة اليهود ، وتكذيب النصارى ، ومحاربة المشركين ، وتربص المنافقين ، وصلف الأعراب ، وتيـه الملوك ، وبطـر الأغنياء ، مع مرارة الفقر ، وجـدب المعيشة ، وعـوز الحاجة ، وحرارة الجوع ، ومعاناة قلة ذات اليد ، فاالمرض عليه يضاعف ، فهو يوعـك كما يوعـك رجلان منا ، شـج وجهه ، وكسرت ثنيته وجرح في جسمه ، ثم كان الله معه في كل ذلك ففاز باالزلفى ونال حسنى العقبى ، بل وصل أشرف المقامات وأجل الرتب .
ويوسف هنا تبدأ معاناته من هذه الرؤيا ، ويستقبل رحلة طويلة ، وسفراً قاصداً بهذه الرؤيا ، لتتحول الأحلام إلى حقائق في حياته ، وتصبح الرؤيا قضايا مصيرية في مستقبله .
ونواصل مع يوسف سجل حياته ، ودفتر عمره وذكرياته ، لنرى ماذا سوف يقع ، وما هي النهاية .