التشـــــــرنق
التشرنق
(1)
ما كان ينقص الرسام لو تأمل شكل (مخلف) وهو يسند ظهره الى الهواء فوق تل العتيقة، إلا الحائط الذي استعاض عنه بأن يتشبث بقصبتي ساقيه من الأمام. كان مخلف يتأمل الفضاء الرحب الذي أمامه ويتخيل كم مشى في تلك الحقول الواسعة في كل مراحلها، وهي جرداء أو محروثة أو معشوشبة أو مزهوة بسنابل القمح .. لم يزعجه تفحص المارة لعقاله الأسود الذي لاحت منه بعض خيوط قطن فاتحة من أثر قدم العقال .. ولم يزعجه لو أن أحدهم اكتشف أطراف ردن سترته أو قميصه الذي تنسلت منها الخيوط معلنة عن ضجرها من طول مدة اصطفافها بشكل نسيج محبوك .. فليس هناك انضباط في أي جماعة يدوم كما دامت تلك الأنسجة التي مر عليها عشرات السنين ومخلف يرتديها..
كان مخلف يتساءل: لماذا كل هذا التعقيد عند البشر؟ فإن أرادوا أن يخرجوا فضلاتهم من بطونهم، يخصصون عشرات الاختراعات ، هذا حمام وهذه حنفية وهذه مقعدة وهذه منشفة، وهل نبني الحمام بجانب غرفة النوم أو بعيدا عنها، وهل نجعل باب الحمام الى الشرق أم الغرب أم نستعين بفتحة في جدران الحمام لتتخلص مما يتكدس من أمونيا مع غازات مزعجة..
وإذا أرادوا أن يناموا يحتارون في اختيار نوعية الفرشة، هل نجعلها من قطن أو صوف أو إسفنج، وهل نرفع مستوى السرير أم نبقي الفراش ملتصقا على الأرض؟ عشرات الأسئلة دارت في رأس العجوز الذي قطع عمره الثمانين، وهو يتأمل عمليات الهدم في بيوت القرية أثناء شق الطريق الأول فيها، بعد أن قرر موظفو الأشغال وجوب تنفيذه ..
ماذا يعني التقدم والرقي حسب رؤية مخلف؟ إنه لم يعن شيئا، وتصور نفسه ضبعا أو ابن آوى، وهو إن قبل بأن يكون ضبعا فإنه سيرفض التطور والرقي، لأن فرصه بالحياة ستقل عندها، حيث ستتضاءل الأمكنة التي سيختفي بها ليلا، وستنعدم فرص قنصه لحيوان أو إنسان في العتمة ..
كان الضجيج الصادر عن حركة الرجال الذين يتقدمهم رئيس عمال يمهدون الطريق بعد أن تطوع أهل القرية في مساعدة من يشق الطريق دون أن يأخذوا أجورا على عملهم .. لم يكونوا متسامحين ومتفانين في خدمة التطور لشق الطريق، ولم يكونوا ماكرين، بل كانوا بين ذلك وذاك، فقد كانوا يهدمون بيوتهم بأيديهم. وعملهم هذا يمثل عمل إنزال الأنثى في قبرها على أيدي أقرب الناس لها ومن كان يحرم عليها كابنها أو أخيها أو أبيها .. وكذلك فإن هدم البيت على أيدي أصحابه، يحتاج علاقة عضوية بين الهادم والمهدوم كما كانت بين الدافن والمدفون .. فستكون ضربات الفؤوس أقل قسوة، ليس رحمة بالجدران والأسقف فحسب، بل لعل من يضرب بالفأس يستطيع استخلاص قطعة ما دون تهشيمها، مثل الحجارة أو قطع الأخشاب والقصب التي كانت في السقوف والنوافذ.
كان الطريق الذي شقته السلطات المحلية، أشبه ما يكون بثقب في غرفة نوم يسمح للمتلصلصين أن يطلعوا على عورات من في داخلها .. لقد أسقط الطريق كل الاحتياطات التاريخية التي اتخذها سكان العتيقة في تسترهم من عيون المتطفلين .. فكانت خطوط الدفاع عن خصوصيات كل أسرة تتمثل بالجدران السميكة التي كانت تبنى من طين وحجر، وتخلو من نوافذ، إلا في أعلى الجدار في قليل من الأحيان، وكان الجار هو الأخ أو ابن العم أو القريب أو أخ لم تلده أم صاحب الدار .. فجاء الطريق ليجعل كل شيء مشاع ومتاح ليسرق نظرة من داخل من في الدار أو يسمع صرخة فتاة أو امرأة وكلها عورات ..
كان مخلف وهو يتأمل هذا التحول المفصلي في حياة القرية، كمن يجلس فوق بركة تتجمع بها الضفادع في كل مراحل نموها، فهذه ضفدعة كاملة تنق وهذا (أبو ذنيبة) بساقين أماميين وذنب يساعد توجيه هذا الطور من الكائن الحي، منتظرا ليتحول الى ضفدع محترف (الضَفدَعة) في المستقبل ..
هذه المراحل لا يشهدها الإنسان وحده، دون الكائنات الحية الأخرى، بل نراها في الحشرات حيث تتشرنق وتتحول من يرقة الى شرنقة تتخفى داخل ستار عضوي، تجري فيه التحولات بمعزل عن مراقبة الآخرين .. كما تجري تلك التحولات على الحبوب والبذور المختلفة عندما تغرز بادرتها في الأرض من الجهة السفلى، لتصعد ببادرتها العلوية منبئة ومبشرة لكائن حي جديد. هكذا تكون الحياة في القرى والمدن والدول والحضارات، باتجاهين متعاكسين، اتجاه نحو الأسفل أو الماضي يستمد صفاته وقوته منها، واتجاه الى الأعلى الى الأمام يبشر في حياة متطورة جديدة ..
وتختل الحياة (هكذا فكر مخلف) عندما تكون حركة الجذور في مساحات ضيقة، فتكون أفرع النبات أو الشجرة متناسبة مع القدرة على امتداد الجذور، فالنبتة التي تزرع في (أصيص) أو (وعاء) مهما كان جميلا ومهما كان متقن الصنع، فإن حركة الفروع ستكون محدودة، حتى لو كان النبات مزروعا في شرفة قصر، فلن تشفع وجاهة صاحب القصر للنبات بالانطلاقة الطبيعية ..حتى لو تم إضافة آخر مبتكرات الأسمدة والمخصبات، فقد يظهر على أوراقه علامات العافية ولكنها ستكون كعافية كلاب وقطط أغنياء أوروبا، لا تعرف العيش إلا في أجواءها المستحدثة ..
كانت النسوة تجفل عند سماع صوت المارة من الطريق، كأنها غزالات تم التقاطها ووضعها في حظيرة قرب قصر، لا تنسى صفاتها البرية، حتى لو طمأنها من التقطها بالأمان و الهدوء .. وكان الرجال الذين تم إرغامهم على تقبل الوضع الجديد، منشغلين في تهيئة الأسوار الجديدة لحجب عيون المتطفلين من المارة ..
كان الشارع (الطريق) كأنه (خزعة) أو عينة أخذت من جسم القرية لفحصها في مختبر، فمن تتبع سير الطريق (الخزعة) سيجد أن استقامته المبالغ فيها، قد نبشت مواطن ذاكرات المكان والزمان وجعلتها (فرجة) أمام من يريد أن يتفرج. لم يكن أحد يتوقع أن دار الحاج (عواد) تقع على طبقات بناء اشترك فيها أقوام تصل الى الكنعانيين و بعدهم الإغريق والرومان والأمويين والمماليك .. فكان من يمر عليها يجد في مقطع الهدم العمودي الذي يزيد عن عشرين مترا، شكلا من أبنية تم إضافتها فوق (مغارات) وكهوف وتمت الإضافات عليها دون تأفف، في عهود متلاحقة، حتى وصلت ملكيتها الى الحاج عواد .. لم يكن هذا المتحف قد خبره أهل القرية، ولا حتى أقرب الناس الى الحاج عواد .. فقد كان يستخدم الأجزاء السفلى لخزن التبن والحبوب وتربية المواشي، وعندما يرتقي الى الأعلى يصنع جدارا حاجزا عن رؤية ما في داخل داره ..
كثيرة هي المقاطع التي أحدثها شق الطريق، ولعل مخلف كان قد تعرف على الكثير منها، واستمد حكمته وصمته و هيبته التي لم تلغيها رثاثة ملابسه وتقدمه في العمر، من هذا الحجم من المعرفة .. ولكن اليوم وقد أصبحت مصادر معرفته مشاعا أمام الجميع، فإن دوره ومعرفته أصبحت في مهب الريح .. ولعله وهو يجلس عاقدا أصابع يديه الطوال على مقدمة ساقيه، يدعو الله أن يريحه من طول عمره الذي أفضى به لرؤية ما رأى ..
__________________
ابن حوران
|