في وعي التسامح
يبدو لنا أن التسامح كمفهوم لا زال محل جدل على الأقل لُغوياً بين العرب والغرب ولسنا في صدد هذا البحث، ولكن اعتقد أن المعنى الذي يقصد منه كلمة التسامح هو التحمل مع معاناة من أجل التعايش مع أمر لا يُحب في الحقيقة أو التوافق مع قضية لا أخلاقية لمجرد الرغبة في التسامح.
لكن ذلك يعبر عن قصور حاد في استيعاب معنى التسامح، ذلك أن المعنى الأساس هو البحث عن أرضية مشتركة ويقينيات تبعث على الاطمئنان من أجل الوصول إلى الحقيقة التي تقف في ثنايا الكليات، فالسعي لتكوين أرضية مشتركة هدفها الأساسي الوصول إلى جوهر الحقيقة، وهذا يفتح الباب أمام إمكانية أن أكون على خطأ والآخر الذي لديه ما لا يعجبني على الإطلاق قد يكون ممتلكاً لحقيقة تخفى علي.
وعلى الإجمال فإن الإنسان مرهون بالمغايرة وعدم التطابق فلا معنى للتسامح أصلاً إذا كانت الأمور كلها تستدعي التماثل سواء في الفكر أو العقيدة.
والتسامح كمصطلح يختلف تماماً عن اللامبالاة أو كما تفسر أنها ترك الأمور تمر والتنازل لشخص كتعبير عن التهذيب باعتبار اشتقاق الكلمة من كلمة (سمح)، فمن غير المعقول أن أعيش دون معتقدات ولا أهتم بمعتقدات الآخرين ثم أدعي أنني أبدي تسامحاً إزاء أندادي في العقيدة، في الوقت نفسه فإن المؤمن الحقيقي لا يمكنه أن يجلس القرفصاء مسترخياً فيما يشاهد بأم عينيه الآخرين يذهبون إلى الجحيم، إنها المفارقة التي ترسم حدود التسامح كأيديولوجية وقيمة رائدة.
إن التسامح لا يعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تنحي المرء عن معتقداته والتهاون بشأنها، إنما يعني أن يبقى المرء حراً في التمسك بمعتقداته وأن يتق بل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، والإقرار بأن البشر مختلفون ولهم الحق في العيش بسلام وهو يعني عدم فرض آراء الفرد على الغير.
كما أنه لا يعني خفة الفكر وفضفاضيته أو جمود الحرية الفكرية والأدبية للعقل البشري أو الخوف من تكوين أفكار شخصية للإنسان أو الخوف من الحوار، كما أنه لا يعني ممارسة دور الحرباء بالتلون بفكر وآخر والقفز من عقيدة إلى عقيدة. إضافة إلى أنه لا يستند على المواطنة الجبانة والتي تتقبل أفكاراً متناقضة لتحاشي موجة الرأي المعاكس بالحجة والبراهين، فالتسامح إذن هو التعبير الأكثر كمالاً لحرية الإيمان والتفكير، إنه تأكيد لمشاعر الضمير والإحساس.
من هنا فإن التسامح كقيمة تقف بين معياري اللامبالاة والإجبار أو القمع، لكن حدود التسامح تمتد بشكل ديناميكي لتشمل حتى دعاة المعيارين الآنفين فتلتحف اللامبالي والمتعصب وتشملهم برعايتها، نظراً لأن المبدأ الأخلاقي قادر على ممارسة دوره والتغلغل في الآخرين بخلاف المبدأ اللاأخلاقي الذي لا يحتمل خصمه.
فالبخيل مثلاً يبدي ازدراءً لمن يبذل ويعطب بل يشعر وكأنه هو الخاسر، لكن المعطاء يبذل حتى للبخيل ويصب خيره عليه.
والمتمترس بالحصون الديمقراطية لا يجد حرجاً من داعية للديكتاتورية يزمجر ويهدد بخروقاته، لكن المتمترس خلف الدبابات يصعب أن يشم رائحة غير رائحة البارود.
إلا أن للتسامح تخوماً وحدوداً لا يجوز تخطيها وتجافيها ففي الوقت الذي يعطي التسامح حقاً لكل معبر عن الرأي وإن كان مبشراً بعدم التسامح، فإنه من غير المعقول أن يقف مكبل اليدين معصب العينين وهو يرى أن اللامتسامح يسعى لتدمير التسامح في المجتمع، وكما في المبدأ الإسلامي (لا حرية لمن لا يؤمن بالحرية)، فإنه لا تسامح لمن يدمر التسامح. إضافة إلى أن الإخلال بالتزامات التسامح الأخلاقية وأدبياتها هو أيضاً تدمير للتسامح مثل تجاوز الحقوق الفردية المشروعة للأفراد أو عدم صيانة مبادئ حقوق الإنسان وما أشبه.
ويدور جدل في الغرب حول أقليات تقر بمبدأ العنف بل وتصل إلى حد القيام بأفعال عنيفة مستغلة ما تقدمه الأكثرية لها من تسامح وهل يجوز إسباغ التسامح عليها أم لا؟؟
ويرى البعض أن هذه الأقليات من شأنها أن تلغي الديمقراطية وحرية القول والتسامح إذا ما قيض لها أن تنجح في الوصول إلى السلطة ولو ليوم واحد، بينما يرى آخرون أنه طالما ظلت هذه الأقليات اللامتسامحة تناقش وتنشر نظرياتها باعتبارها مقترحات عقلانية يتوجب علينا أن نتركها تفعل هذا بكل حرية بيد أن علينا أن نلفت انتباهها إلى واقع أن التسامح لا يمكنه أن يوجد إلا على أساس التبادل وأن واجبنا الذي يقضي منا التسامح مع أقلية ما ينتهي حين تبدأ الأقلية أعمال العنف(1).
إن ظهور مفهوم التسامح برز في نهايات القرن السادس عشر الميلادي في الغرب بشكل ملحوظ أثر المرارة التي لاقاها من الحروب الدينية المتلاحقة في وسط أوربا، وطبيعة الحال فإن التسامح أخذ حيويته ومجاله في الغرب سواء في التشكيل الأيديولوجي والفكري أو التنظير القانوني، ولكنه ما زال هشاً كممارسة في وسط دول العالم الثالث وكأنه (طفل يتلعثم). ومرجع ذلك أن الثقافة العربية ظلت أسيرة لهاجس الخوف من وقوع الفرقة والفتنة والسعي بالمقابل لتأكيد وحدة الأمة والخشية من أن السماح بالاختلاف في الآراء والأفكار قد يضعف تماسك الأمة، لكن التسامح منظومة ثقافية حضارية هدرت فقرّت ويستحيل التنازل أو التخلي عنها.
وما يزيدها حاجة ومكوثاً ارتباطها في جملة واجبات وحقوق تحف بالمرء من مثيل الملكية الخاصة والحرية الشخصية والنزعة الفردية وحماية حقوق الآخرين والتواصل الحضاري والتلاقح المعنوي بين كافة بني البشر تجعل من قيمة التسامح ذا ضرورة حتمية.
ومكونات التسامح كمنظومة مفاهيمية هي ما يلي:
1- الانحراف: فما يتم التسامح معه، منحرف عما يعتقده المتسامح أو يفعله أو يظن أنه يجب فعله.
2- الأهمية: فصاحب الانحراف ليس تافهاً.
3- عدم الموافقة: فالمتسامح لا يوافق أخلاقياً على الانحراف.
4- السلطة: فالمتسامح يملك السلطة لكي يحاول كبح أو منع أو معارضة أو عرقلة ما يتسامح معه.
5- عدم الرفض: فالمتسامح لا يمارس سلطته فهو يتيح للانحراف أن يستمر.
6- الصلاح: فالمتسامِح (بكسر الميم) صائب والمتسامَح (بفتح الميم) جيد(2).
ولو تفحصنا التشريعات الإسلامية لوجدنا أن القرآن الكريم حفل بجملة مناقبيات تدعو للتسامح وقبول الآخر والعمل المشترك والتلازم الحضاري لإصلاح الأوضاع والمجتمعات.
التسامح العقيدي:
ففي مجال الدعوة إلى الدين الإسلامي وهو أشرف مجال يخاطب الله رسوله المبلغ عنه قائلاً: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(3)، ويخاطب الله تعالى الناس الذين يتوجه إليهم رسوله بالدعوة بخطاب لا ضغط فيه ولا إكراه ولا تطرف فقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض)(4). ويقول أيضاً: (لا إكراه في الدين)(5)، (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(6).
ثم يوجه القرآن الكريم الدعاة إلى أسلوب اللين والرفق فيقول تعالى:
(فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)(7).
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(8).
(فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر)(9). (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)(10).
إن الإشارات البلاغية غاية في الوضوح معلنة عن أهمية أن يكون الداعية متسامحاً ليناً لا أن يصبح قاضياً تتلخص وظيفته في إصدار الأحكام على الآخرين بتسفيههم وتكفيرهم وترهيبهم أو إهدار دمهم.
كما يخاطب أهل الكتاب من اليهود والنصارى بخطاب يدعوهم فيما يدعوهم إليه إلى التفاهم والاتفاق على عقيدة واحدة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضناً بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)(11)، كما يدعو الله رسوله إلى عدم الاصطدام في النقاش مع أهل الكتاب فيقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)(12).
وإذا كان أهل الكتاب أو غيرهم من المشركين لا يلبي الدعوة بل يعرض عنها فلا ينبغي أن يستاء الرسول من ذلك فتلك إرادة الله (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(13)، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)(14)، (15).
التسامح المعاملاتي
أما في مجال المعاملات فالقرآن يوصى المسلمين بالتسامح والعفو يقول تعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم)(16).
وأيضاً: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(17)، كما يوصي القرآن بدفع السيئة بالحسنة فيقول تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون)(18). ويقول: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(19)، (20).
ويقول تعالى مخاطباً رسوله الكريم: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)(21).
يتبع
__________________
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83)
|