وعليكم السلام
صادف مني الإنترنيت اليوم خلو وقت وصادف أخانا عمر مثله وهذا نادر، فأنزلت مقالي صباحاً ورد عليه ظهراً بتوقيت غرينتش ورددت عليه مساء، وهو هذه الأيام "متفض" كما نقول بالدارجة لسبب أعرفه وإذا لم ينقد مقالي هذا "نقداً بناء" (بالاصطلاح العربي وهو المديح المفرط بلا قيد ولا شرط) فسوف أذكر هذا السبب
لعمري يا أبا حفص لولا ثلة في هذه الخيمة أنت منهم تتقن القراءة كما تتقن الكتابة لسحبت أوراقي واعتذرت على رأي نزار قباني، وهذه الثلة، ما شاء الله، تزيد كما أرى، فحصنتكم بأسماء الله الحسنى من الحاسدين.
وعود إلى نقاط أخي عمر:
1- لا يخفى عليك أن هذه المركبات الموضوعية للعمل يتعاون القراء ، أو بتعبير أعم: المتلقون على إدراكها والتنبيه إليها، فما لم ينتبه إليه واحد ينتبه إليه آخر..
2- وقد ذكرت مثال الوزن فرب قصيدة تنتبه أنت إلى وزنها ونظام القافية فيها ولا ينتبه آخر ليس لديه أذنك الموسيقية إليهما، ولكنه في المقابل ينتبه إلى بعض جوانب المعنى لم تنتبه أنت إليها..وولا ينبيك مثل خبير حاز على الذوق والفهم في بعض المسائل كجمال قطعة موسيقية أو أغنية، وكثيراً ما يكون المرء يشاهد مسلسلاً في التلفزيون فيهتم بأبعاده الفلسفية ثم تنبهه زوجته إلى أبعاد اجتماعية بديهية موجودة أمام عينيه ولكنها تفوته كونه مشغولاً "بالأمور المهمة" فهو يظن مثلاً أن البطلة منزعجة لإخفاقات أمتنا الحضارية لذلك هي سارحة بينما زوجته تفهمه أن البطلة منزعجة لأنها حسدت جارتها على ثوبها الشيك! ، وهذا أمر مجرب يوافقني عليه كثيرون أحسبك منهم.
3- ثمة جوانب في الجمال لم توضع لها مقاييس بالفعل ولكنها لا تخلو من أن تكون واحداً من اثنين: إما أن تكون هذه الجوانب مما يدركه الجميع ولكنهم لم "يفهموها" أي بواسطة المقاييس بعد، وهذا يدل على أن وجود هذه الجوانب موضوعي بانتظار من يكتشف تركيبها وهذا ما كان وضع الأوزان عليه قبل الخليل..
وإما أن تكون مما يتفرد به واحد وفي هذه الحال لا نأمن أن يكون هذا الجانب تخيلياً بحتاً أو ناتجاً عن تجربة ذاتية كمن يحب أغاني كتكوت الأمير ويفضلها على أغاني أم كلثوم لأنه صادف خطيبته لأول مرة في محل أشرطة كان صوت الكتكوت يزقزق فيه، وهذا الشخص يمكن له لاحقاً أن يكره الكتكوت إذا سارت الأمور مع خطيبته باتجاه نكد.
4- لعل إخواننا دعاة الشعر الحداثي معهم حق في بعض الجوانب ولكنهم في هذه النقطة التي ذكرتها في نقطتك الرابعة معرضون دوماً وأعني الصادقين منهم لا الدجالين لما أسميه "القيمة الضائعة" وأعني بهذه القيمة المعنى أو المدلول الذي الدال فيه غير مشترك بين الناس كالعلامة التي يضعها فردان فيما بينهما ليتفاهما على أمر لا يريدان أن يعرفه الحاضرون وهذه العلامة تضيع ببساطة بذهابهما وتفقد أي قيمة معنوية ومثلها مثل النكات الارتباطية التي تقترن بقصة فإن ضاع عارفوا القصة ذهب المعنى وضاع نهائياً ولم تعد النكتة نكتة أي فقدت قيمتها الخاصة التي جعلتها نكتة، بحيث أنك تقع في مأزق:هل القيمة موجودة حقاً؟ وهكذا "يضيع المعنى ببطن الشاعر" كما قالوا وهكذا حال الرسم الحديث أيضاً وبالمناسبة أنا كنت ممن جرب فضح مزاعم الاتجاه السوبر حداثي في معرفته بجوانب جمال في نصوصهم لا يحس بها التقليديون كما زعموا حين أتيتهم بكلام خلط لفقته ونسبته لسان جون بيرس وقلت لهم: "هاتوا قولوا لي أين الجمال في أقوال بيرس هذه؟" فانطلقوا "يحللون" و "يبرهنون" وهكذا حازت مرة لوحة "رسمتها" قطة قلبت سطل الدهان على قماش أبيض على جائزة..
في حال أن الشاعر أو الرسام من هؤلاء صادق فعلاً وليس دجالاً فإنه لا محالة يتعامل مع "قيم ضائعة" أي في الواقع قيم لا وجود لها..
5- ملاحظاتك عن تقييم الحضارات لبعضها صحيحة مبدئياً في اعتقادي ولكنها صحيحة فيما يخص المرحلة النسبية التي ينظر فيها المرء إلى الحضارات في سياقها الخاص ولا يقيم مكوناتها بناء على قيم مطلقة بل يرى المعنى لكل عنصر من عناصر بنيتها قادم من العناصر الأخرى ضمن البنية نفسها فلا يمكن الحكم عليه انطلاقاً من بنية أخرى.
6- وهذه النظرة متقدمة على النظرة العنصرية البسيطة التي تحكم على كل الحضارات انطلاقاً من معايير حضارة واحدة..
ولكن لا بد لنا أن ننقل الحكم خطوة أخرى إلى الأمام فنستفيد من منجزات النظرة النسبية التي يمثلها مثلاً انثروبولوجيين من أمثال كلود ليفي شتراوس وغيره فنفهم الحضارات من داخلها ولكننا ننتقل إلى التقويم المبني على اعتبارات مطلقة بالفعل منها الاعتبارات الماورائية كالدين والاعتبارات الإنسانية العامة كمصلحة البيئة مثلاً إلى آخره..
7- وأدعو لك بأن تنتهي مرحلة تفرغك على خير.. مع التحية