لا عزاء للملة.. ولا للملالي
==============
لم يستثمر الفقهاء تلك السلطة التي صنعوها لأنفسهم، والأموال التي يجنونها من عامة الشيعة في تغيير الحال العلمية والاجتماعية الرثة إلى حد بالغ في جنوب لبنان، وقد استمرت هذه الحالة إلى ما يقرب من قرن كامل من الانحطاط والبؤس، إذ اعتُبِرَ شيعة لبنان منذ زمن طويل أكثر الطوائف اللبنانية حرماناً،فوفق أغلب ـ إن لم يكن كافة ـ المقاييس التي تحدد الحالة الاجتماعية والاقتصادية يأتي الشيعة في أدنى درجات السلم بالمقارنة مع الطوائف الأخرى.
«فاستناداً إلى إحصاءات 1972م نجد أن معدل دخل «العائلة» الشيعية كان ـ 5432 ليرة لبنانية (كان الدولار في العام 1976م يعادل ثلاث ليرات لبنانية) بينما يبلغ دخل «الفرد» ـ من غير الشيعة ـ 6247 ليرة لبنانية، وإنهم يملكون أكبر نسبة مئوية من العائلات التي يبلغ مدخولها أقل من 1500 ليرة لبنانية. وهم الطائفة التي تضم أقل عدد من العاملين في الحقول التالية: المهني والتقني، النشاط التجاري أو الصناعي وإدارة أعمال، الوظيفة المكتبية والأعمال الحرفية، وأكبر عدد من العمال والمزارعين والباعة المتجولين. ولقد وجد (مايكل هدسون) في دراسته التي أجراها عام 1968م أن نسبة التلاميذ إلى السكان في المنطقتين اللتين تعيش فيهما أغلبية شيعية (البقاع والجنوب) والبالغة حوالي 13% تقل بـ 5 % عن المحافظات الثلاث الأخرى. ووجد (رياض طيارة) في تحليله للفروق التعليمية أنه في 1971م كان 6,6% فقط من الشيعة قد نالوا تعليماً ثانوياً وما فوق؛ مقابل 15% و 17% على الأقل للسُّنَة والمسيحيين على التوالي.
ووجد (حسن شريف) أنه بناء على إحصاءات الدولة الرسمية لعام 1972م فإن الجنوب الذي يبلغ عدد سكانه 20% تقريباً من عدد السكان العام لا يحظى بـ 0.7% من ميزانية الدولة. ويظهر وصف (شريف) للتخلف في الجنوب الظروف التي كان على العديد من الشيعة أن يعيشوا في ظلها: «يحظى الجنوب بأقل نسبة من الطرقات المعبدة سواء بالنسبة للفرد أم بالنسبة للكيلو متر المربع. والمياه الجاريـة لا تزال مفقودة في كل القرى والبلدات رغم أنه تم في أوائل الستينيات تمديد الأنابيب إلى العديد من المناطق، وكذلك مدت شبكة الكهرباء في الوقت نفسه تقريباً، إلا أنها ظلت لا تعمل في معظم الوقت. ولا توجد تجهيزات لتصريف المياه إلا في المدن والبلدات الكبيرة، ويغيب الهاتف كلياً خارج المراكز الكبيرة اللهم إلا من كابينة يدوية واحدة هي في العادة معطلة. ويزور الأطباء القرى مرة في الأسبوع وأحياناً مرة في الشهر كله. ولا توجد المستوصفات إلا في القرى الكبيرة، إلا أنها لا تعمل بانتظام، بينما لا توجد المستشفيات والصيدليات إلا في المراكز الكبيرة. أما التعليم الابتدائي فيجري عادة في بيت قديم غير صحي تقدمه القرية نفسها. أما المدارس التكميلية فقد أدخلت إلى البلدات الكبيرة في منتصف الستينيات».
وبناء على بحث «نورثون» الميداني في لبنان عامي 1980م ـ 1982م فإن وصف (حسن شريف) لا يزال محتفظاً بصحته بشكل عام؛ فالظروف التي يصفها لا تزال في غالبيتها على الأقل سيئة بالمقدار نفسه، بل لعلها قد ازدادت سوءاً في مجالات عدة عبر سنوات الحرب الأهلية والتفتت الاجتماعي(1).
ولقد وصف أحد الرحالة (دافيد أوركهارت) في منتصف القرن التاسع عشر الشيعة بأنهم شعب خامل خانع يتمتعون بالقذارة والفساد، وحتى بعد ذلك بقرن من الزمان، كان هذا الوصف لا يزال صحيحاً في نظر العديد من المؤلفين: «يلبسون جميعاً أسمالاً بالية، باستثناء بعض المشايخ، وجميعهم متسولون. يتحلقون حول النار التي يطهى عليها الطعام في الهواء الطلق، وإذا طلب من واحدهم أن يحضر بعض البيض هز كتفيه. وإن قيل له أنه سيجزى مالاً لقاء تعبه (في إحضار البيض) يجيب «لا يوجد». إن قذارتهم تثير الاشمئزاز حتى تكاد تظنهم يتفاخرون بخروجهم عن القانون والشريعة، فهم لا يحافظون لا على نظافة أنفسهم ولا على نظافة قراهم»(2). ويصف محمد جابر آل صفا حال بني قومه من الشيعة في جبل عامل في الفترة التي عاصرهم فيها فيقول:«انتشر الفقر والخراب وكذا الغش والتزلف والنفاق والوشايات، فساءت الأخلاق، وفسدت النفوس، وتنافرت القلوب. ولم تزل آثار هذه الأخلاق تفتك فتكاً ذريعاً في أدبيات البلاد ومعنوياتها. وانقرض أبناء ذاك الجيل، جيل العز والمنعة والإباء، وخلفهم جيل اتخذ التزلف والخداع والأثرة ديدناً له، فكان أسوأ خلف لخير سلف. نعم الجدود ولكن بئس ما ولدوا... وإن القلب ليحزن والعين لتدمع على المصير المحزن، والعاقبة الوبيلة التي وصلت إليها الطائفة، وكيف تبدلت الحال غير الحال والأرض غير الأرض»(3). «وفتحت أبواب السلب والرشوة على مصراعيها. وقلَّما كنت ترى أو تسمع بموظف نزيه عفيف إلا ما شذ وندر. وكان كبار الموظفين يضغطون على صغارهم فيدفعونهم دفعاً لنهب الأهلين وسلب أموالهم. وكانوا في الغالب لا يسمعون لمظلوم شكوى في حق أحد الموظفين»(4). «وانتشرت الأخلاق الفاسدة، والميول الشريرة، وامتدت أيدي اللصوص وقطاع الطرق إلى مال الشعب البائس، فاختل الأمن وسادت الفوضى ووقعت البلاد في فقر مدقع وضنك شديد»(5).
«هذا وصف موجز للحالة الإدارية في جبل عامل في ذلك العهد: تجارة كاسدة، وأمن مختل، وزراعة بائرة، وفقر مدفع، وعيش أنكد»(6). «ولا يسع المنصف إلا أن يرسل دمعة سخية على المصير المحزن الذي وصلت إليه هذه البلاد، منبت الأبطال، ومهبط العبقرية، وكيف هوت للحضيض، وتدهورت في مهاوي الانحطاط»(7).
وبالرغم مـن الإحكام الشديد لطوق السيطرة الدينية الشيعية على الناس، إلا أن الوضع الديني والاجتماعي والتعليمي بلغ في لبنان وضعاً مزرياً؛ فهذا أحد أشهر العلماء الشيعة في ذلك الوقت، وأكثرهم حسرة على واقعهم يقول: «فهذه القرى العاملية لا يذكر فيها اسم الله ـ تعالى ـ في ليل ولا نهار، ولا فرق عند أهلها بين رمضان وشوال. أما مكانة عالم الدين فانحطت إلى أسفل الدركات: فهذا يموت جوعاً ولا يشعـر به إنسان، وذاك تتجهم السفهاء على كرامته، فلا يجد ناصراً ولا معيناً، وآخر يتحزب للبيك والنائب ليأكل الرغيف»(8).
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|