الجزء الثالث( حقيقة كفر وجرم حزب الله في لبنان فضحه الله)
تحديث القيادة الشيعية:
===============
وسع موسى الصدر أن يقول: «لقد أخذت بيد رجل الدين لأدخله في المجال الاجتماعي، ولقد رفعت عنه غبار القرون»(7). «فلقد آذن النحو الذي نحاه موسى الصدر في بناء القيادة الشيعية في العقد السابع من القرن العشرين الميلادي بتحول كبير في رسوم هذه القيادة وفي ترتيب معاييرها. فتصدى الشاب ذو الثلاثين ربيعاً لمثل هذه المهمة، القيادة، من غير ادعاء علم يفوق علم أقرانه، ومن غير الإدلال بإجازات ولا بتآليف أو اجتهادات. ولم يَعْنِ ذلك عزوفاً عن الخوض في المطالب الدينية. فهو توسل إلى غاياته بالعمل السياسي الجماهيري، وبتكثير العلاقات ونسج الروابط التي تجعل منه وسيطاً وطرفاً في شبكة الروابط اللبنانية والإقليمية. فتوجت مكانته، وإمامته، فلاحَ نهجه في إظهاره من يتكلم باسمهم، بمظهر القوة السياسية والاجتماعية التي ينبغي احتسابها في المشاريع العامة المختلفة، وإذ انضوى إلى الصدر وإلى حركته معظم العلماء الشيعة اللبنانيين واعتزلته جماعات أخرى منهم: أنصار حزب الدعوة، والمتحلقون حول الزعامات التقليدية، وأنصار التيارات التقدمية والعلمانية، ومردُّ ذلك إلى عمله السياسي في المرتبة الأولى. إلا أن الدور السياسي لم يـورث مرجعية دينية وفقهية التي بدا أن الصدر لا يوليها اهتماماً كبيراً، برغم حرصه وحرص شرف الدين الذي جاء الصدر ليخلفه، على تكثير العلماء، وتمهيد سبل إعدادهم. فتصدر الشيعة اللبنانيين تصدراً متنازعاً رجلُ دين لم يُجمِع أقرانه عليه، ولم يسع هو إلى مثل هذا الإجماع. لذا خلت مسألة المرجعية من كل مضمون، وجلا عنها كل إلحاح، فلم يتصدّ لها أحد من العلماء، لا قبل الصدر ولا بعده، فأثَّر موسى الصدر في إخلاء مسألة المرجعية من مضمونها وإلحاحها، برغم أن السياسة الخمينية تنهض في وجه من وجوهها على إنشاء سلك علمي وديني واسع ومتماسك تسوسه على نحو مركزي»(8).
وبهذا فقد أضعف الصدر إلى حد كبير دور الزعامات الشيعية التقليدية التي لم تكن لها تطلعات ثورية، وارتضت واقع العيش اللبناني، والتمسك بالمكاسب الخاصة دون النظر لتطلعات وآمال وآلام الأمة الشيعية إن لم يكن قضى عليها.
2 ـ وضوح التميز الطائفي:
اتخذ الصدر لإجلاء صورة الطائفية الشيعية أمرين مهمين:
الأول: تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى: جاهد الصدر كثيراً لضم الشتات المبعثر لشيعة لبنان، وما أن بدأ الالتئام حتى سعى إلى الانفصال التـام بالشيعة باعتبارها طائفة مستقلة عن المسلمين «السنة» في لبنان، فقد كان للمسلمين في لبنان مفتٍ واحد ودار فتـوى واحدة، وكان المفـتي وقتـها هو الشيخ حسن خـالد ـ رحمه الله ـ، وادعى الشيعة أن الشيخ حسن خالد رفض التوصل إلى عمل مشترك معهم(9)، وفكر الشيعة في إنشاء «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» عام 1966م ووافق مجلس النواب اللبناني على إنشائه واختير الصدر رئيساً للمجلس، وبهذا أصبحت الشيعة طائفة معترفاً بها رسمياً في لبنان كالسنة والموارنة. وأصبح هذا المجلس المرجعية السياسية والدينية الجديدة التي تهتم بكل ما يتعلق بالشيعة اللبنانيين وبجميع شؤون حياتهم ومماتهم، وتحولت المرجعية بهذا المجلس من مرجعية فردية إلى مرجعية مؤسسية، وإن لم يتم التخلي عن دور المرجع الشخصي.
الثاني: تأسيس حركة المحرومين: أخذت هذه الحركة في بدايتها بالسمة الاجتماعية والمناداة بتحسين أحوال الشيعة في لبنان، وخاصة سكان الجنوب، ووضع لها الصدر شعارات براقة، كالإيمان بالله والحرية والعدالة الاجتماعية والوطنية وتحرير فلسطين، وأن الحركة لجميع المحرومين وليست خاصة بالشيعة، «فنزعت هذه السياسة مع موسى الصدر إلى استدراك ما فات الشيعة اللبنانيين من لحمة ومن قوة، وذلك من طريق وصل ما انقطع بين المقيمين في الأرياف وبين النازلين المدن، ومن طريق تقريب ما تباعد بين أهل جنوب لبنان وبين أهل بقاعه أو شماله الشرقي، وكان على حركة الصدر أن تصور الفروق الاجتماعية والثقافية المتعاظمة في صفوف الشيعة في صورة الأمر الهين والثانوي، والذي يتأخر عن وحدة جماعتهم زمناً قبل أن تتداركه فتجلو الجماعة الشيعية واحدةً، سياسة واجتماعاً. فجاءت السياسة الشيعية الجديدة تتويجاً لانفكاك السياسة من الحياة الاجتماعية ومن علاقاتها، وتتمة لهذا الانفكاك. لكن هذه السياسة نقلت إلى جملة الطائفة ـ أي إلى كل الشيعة ـ ما كانت الأنظمة النيابية والانتخابية تنيطه بطاقم نيابي، تتصدره مـراتب عائلية بعينها، لا تتصل بالحياة الاجتماعية إلا من طرق مواربة، ولما كان «كلّ» الشيعة، شأن «كلّ» أو «جميع» أي جماعة، لا كيان له إلا متخيّلاً ومتوهماً ومرموزاً إليه، عمل موسى الصدر على نصبه وتجسيمه في شارات تقربه من المخيّلات، وتحمله على الحقيقة. فكانت التظاهرات الكبيرة التي تجمع عشرات الألوف من الناس، وتضمّ أجنحة الشيعة اللبنانيين، في الجنوب والبقاع، وفي الريف والمدينة، وكان رفع «الحرمان» شعاراً ليميز في الشيعة أنفسهم الذين أقاموا على التشيع الحق ـ على ما يراه الشيعة ـ وما يفترضه من قهر أو «مظلومية»، ليميزهم عن الذين تخلوا عن قومهم والتحقوا بذوي الامتيازات. ولكنَّ لشعار «الحرمان» دوراً جامعاً؛ إذ يذكّر بالفرق بين الشيعة وبين غيرهم داخل الفئة أو المرتبة أو الطبقة الواحدة»(10).
وكان العديد من الشباب الشيعي قد انضم إلى جماعات مختلفة مثل التنظيم البعثي الموالي لسوريا والحزب القومي الاجتماعي السوري، وجبهة التحرير العربية التي يدعمها العراق، وبعض التنظيمات الماركسية المتعددة، ولقد كان من أسباب هذا الانضواء تحت هذه المذاهب المختلفة خلو الساحة السياسية من حركة شيعية تجمع هذا الشتات الكبير، كما أن هذه التنظيمات كانت تدفع رواتب مجزية لأعضائها، وقد كانت الحالة الاجتماعية للشيعة شديدة في فقرها. وعندما أعلن موسى الصدر عن حركة المحرومين دخلها من دخلها من هؤلاء بما هم عليه من أفكار هذا الشتات، وكما ضمت الحركة تلك التشكيلة المختلفة ضمت كذلك في ثناياها «الجماعة الإسلامية» أو الخمينية والإيرانية الولاء لاحقاً، وكانت أكثر الجماعات المنضوية تحت عباءة الحركة، وقد سعت للاستيلاء على الحركة من داخلها والسيطرة عليها فكانت حركة المحرومين هي «العباءة» التي لبستها وتسترت بها قبل أن يحين خلعها والسفور عن هوية سياسية مستقلة ومنظمة، ويبدو في تلك المرحلة أن الهم الأكبر كان جمع هذا الشتات الشيعي بأي شكل كان ،وتجميعه تحت قيادة جديدة تستطيع المحافظة على هذا الجمع إلى حين. وكان كذلك أن ذهب الصدر إلى علاج ما يلح عليه أهل الطائفة الشيعية، من احتياجهم إلى مرافق يتوسلون بها إلى ما فاتهم من تحديث التعليم والإعداد المهني والرعاية الصحية والاجتماعية، فأنشأ مدرسة الخياطة والتفصيل، ومدرسة التمريض، ومدرسة جبل عامل المهنية التي تخرج منها أهم كوادر المقاومة المسلحة لحركة أمل فيما بعد، كما شهد بذلك نبيه بري ـ زعيم الحركة بعد الصدر ـ،(11) كما أنشأ مبرة الزهراء ومستشفى الزهراء فيما بعد.
إلى هنا سنترك الصدر بهذين الإنجازين وسنعود إليه عندما يلتقي مع محمد حسين فضل الله في نقطة الانطلاق الثالثة.
--------------------
(1)أوليفيه روا ، تجربة الإسلام السياسي، ص 178.
(2) انظر ترجمته في: الإمام المستتر، فؤاد عجمي، والإسلام الشيعي عقائد وأيديولوجيـات، يان ريشار، وجاء دور المجوس، عبد الله الغريب، وتجربة الإسلام السياسي، أوليفيه روا، وأمل والشيعة، لنورثون.
(3) يذكر أن الأسرة الشهابية كانت من الأسر الدرزية التي تنصرت، انظر: الطائفية اللبنانية من النشأة حتى الأزمة، د. محمـود الصـراف، دار الهداية للطباعة والنشر، ص 15، وانظـر: تاريخ لبنان الحديث، ص 40 ـ 41.
(4)انظر: عبد الله الغريب، وجاء دور المجوس، 409 ـ 423.
(5)تجربة الإسلام السياسي، ص 178.
(6)انظر: الصدر ودوره في حركة أمل، ضمن حلقات: الإسلام والكونجرس الأمريكي، د. أحمد إبراهيم خضر، مجلة المجتمع، العدد: 957، ص 47.
(7)فؤاد عجمي، الإمام المستتر، ص 58.
(8)انظر: دولة حزب الله، ص 167 ـ 169.
(9) انظر هذا الكلام وهو لحسين الحسيني ضمن حلقات حازم صاغية التي بعنوان: معرفة (بعض) لبنان، طوائف وعائلات، مناطق وأحزاباً سياسية، جريدة الحياة، العدد 13323 / 19/5/1420هـ، 30/8/1999م.
(10)دولة حزب الله، ص 79 ـ 80.
(11)راجع ذلك في حواره مع مجلة الوسط، العدد 275/5/5/1997م
التثوير العلمي والديني
الدور الذي قام به الصدر حل بعض الإشكالات التي تواجه التجمع الشيعي بأمراضه المزمنة؛ ولكن بقيت بعض الإشكالات الأخرى التي لا يصلح لمعالجتها الصدر وأمثاله، فبقيت قضية العلم الديني الإمامي: تدريسه وتطويره وتقريبه للناس، والترغيب في العودة إلى حِلَقه في الحوزات والحسينيات، ثم ربط ذلك كله بالهدف الأساس، وهو تحويل المجتمع الشيعي اللبناني إلى مجتمع حرب ـ على حد قول فضل الله نفسه ـ ليمهد للثورة وتحويل لبنان إلى دولة شيعية.
يحيط الغموض بماهية الدور المحدد الذي يلعبه السيد محمد حسين فضل الله (1). فقد برز فضل الله منذ خريف 1983م بوصفه أحد أكثر علماء الشيعة نفوذاً في لبنان، وبخلاف مرشده آية الله الخوئي الذي يرفض التدخل في السياسة، مارس فضل الله دوراً فعالاً على الساحة السياسية. وبدا أحياناً وكأنه يستمتع بوصفه شخصية سياسية معروفة.
ويُعتبر بشكل واسع قائد حزب الله أو مرشده الروحي. وبصراحة فإن التوصل إلى الحقيقة ليس بالأمر السهل، كما أنه لدى فضل الله من الدوافع التي تحمله على المكر والتضليل ما لدى أعدائه أو يزيد.
يزعم فضل الله بشكل دائم بأنه ليس رئيساً لأي حزب أو حركة؛ إذ ليس المهم أن يكون رئيساً (أو مرشداً) لحزب الله بقدر ما هو مهم أن تلقى دعوته صدى لها في صفوف الطائفة الشيعية جميعها(2). وفضل الله رجل زئبقي التصورات والأفكار، ويجيد المراوغة الكلامية والتلاعب بالألفاظ، ولكن يبقى أن كل هذه المؤهلات لا تستطيع الحياد به أو أن يحيد هو بها عن هدفه الأساس في لبنان، ومن هذه الأفكار التي تبدو متناقضة متنافرة نراه يقول: «أنا في الحقيقة رجل حوار، ولي كتب ومدرسة للحوار، وأطلب من الناس أن يحلوا مشاكلهم عبر الحب والتفاهم وليس عبر استخدام العنف»(3).
تابع انشاء الله
__________________
khatm
|