بدر لم يكتمل ....(قصة قصيرة )
[color=blue]
منذ أن تخرج وعمل مهندسا فى أحدى الشركات .. وحياته راكدة .. يحس فيها بسكون ما قبل العاصفة .. يشعر بافتقاده لشيء هام فى حياته .. لكنه لا يدرك كنهه.. رغم ما حققه من نجاح فى عمله المرموق لم يحس بالاستقرار أو السعادة.. , هو من أسره ميسورة الحال وليس المال هدفه.. شيء ما ينقصه.. شعور في نفسه لا يفهمه, يزور مختلف الأماكن يبحث في الوجوه عله يلقى بغيته.. حتى كان ذات يوم يجلس في أحد النوادي وسط أصدقاءه يمرحون في لهو بريء ويتجاذبون أطراف الحديث.. حين لفت انتباهه فتاه اتخذت لنفسها مكانا فى موضع قصي.. كأنها نسخه بشريه من ملاك, بثيابها البيضاء وشعرها الحالك السواد وعينيها الحالمتين كأنهما نجمتين تضيأن ليل طويل وقد سقطت منهما دمعه هي كقطره الندى فوق الزهور.. فحار في أمرها, فتاه بهذا الجمال والسكون ماذا علها تخبىء فى صدرها من حزن دفين.؟ .. ووجد نفسه رغما عنه يفكر فيها وقد شغلته عن لهو الأصدقاء ومداعباتهم.. وأخذ اهتمامه بها مأخذ الجد, فترك أصدقاءه دون استئذان وأتخذ طريقه لمائدتها.. وجلس دون أن تشعر به.. وأخذ يتأمل كيف تعبر الملائكة عن أحزانها بنثر قطرات اللجين.. فلما أحست به أخذت تكفكف دمعها وتستعيد رباط جأشها, ثم قامت مسرعه دون أن تلتفت إليه, ومر عليه فى موضعه هذا ساعة أو يزيد, وهو كالمأخوذ عقله.. لا يشغل تفكيره سوى الفتاه.. أيكون قد تأثر لحزنها ؟ أم أن حبها قد مس شغاف قلبه ؟
فقام وأخذ يتمشى على كورنيش الإسكندرية الجميل.. فأبصر الشمس حين تغيب وقد خضبت مياه البحر بشفقها.. وكأن الكون يشاركه عذابه وتمزق روحه.
وسار وهو لا يحس لسكون الليل جمال, ونسيم هواءه يزكى اضطرام خواطره, حتى وصل لمسكنه.. فقضى ما بقى من الليل في ذكرها. وفي الصباح ذهب لعمله.. يؤديه بفتور وأسرع فى إنهاءه وذهب لنفس المكان فى نفس الوقت وانتظر عله يحظى برؤياها, لكنها لم تأت.. وكل يوم يكرر نفس الشيء.. انتظار .انتظار. ... بلا موعد ولا أمل في لقاء..
حتى كان ذات يوم على عهده باق.. مرابض فى نفس المكان وقد ثار بينه وبين نفسه حوار.. ماذا الم بك ؟ ماذا يجذبك لتلك الفتاه؟ انك حتى لا تعرف اسمها, ولا أين تسكن؟ ولا أي شيء عنها ؟!..
فيجيبها بأنه لا يدرى.. لابد انه قد أحبها.. وهل يستأذن الحب قبل أن يغزو القلوب؟.. إنما هو سهم نافذ لا يخطى هدفه.. لكن ماذا عله فاعل في تلك الحيرة التي ألمت به؟ .. وبينما يشغله حديث نفسه وخواطره إذا به يبصرها قادمة.. ثم جلست على مائدتها في مواجهه البحر .. وقد استغرقت في تفكير عميق, فهب من مكانه وحاول الاقتراب منها.. لكنه خشي أن يثير حنقها ويفقدها.. فعاود الجلوس, وأخذ يتأملها ويتحين اللحظة المناسبة ليكلمها.. وقد حانت عندما سقط منها كتاب كانت تتصفحه.. فأسرع يلتقطه وأعاده إليها..فأخذته منه وشكرته.. وطلب منها الجلوس فلم تمانع, لو كان للسعادة مقياس لما أستطاع أن يرصد سعادته من فرطها.. ما أسعده الآن وهو جالس بينحاله. لا يفعل أكثر من النظر لعينيها.., أفاق على صوتها يسأله عن حاله .. فأجاب بأنه على أتم حال.. ثم سألها على استحياء:- مالي المح ركنا مظلما فى عينيك وبقايا دموع ؟.. فأشاحت بوجهها عنه تجاه البحر وقد زفرت بتنهيده عميقة أودعتها حرارة أحزانها... ثم أردفت فقالت:- إنها قصة طويلة, لا أريد أن أثقل عليك بها.. ثم إننا لم نتعارف سوى من لحظات, فأسرع يجيبها بأنه يكاد يجزم بأنه يعرفها منذ
سنين.. فلم تفارق صورتها خياله منذ رآها أول مره وقد ملأت عليه كل تفكيره.. ولم تدع به مكانا ليشغله سواها . وانه لن يهنأ له بال حتى يعرف ما بها عله يستطيع أن يخفف عنها همومها.. فعاودت
النظر إلى البحر وقالت:- أنا بالفعل أشعر براحه فى الحديث إليك لم أعهدها فى أحد من قبل, وأود بالفعل أن أطلعك على ما يختلج فى صدري.. لكن أترك ذلك للأيام فهي كفيله بتضميد الجراح.. فأجابها:- هوني عليك, لم أقصد التطفل, إنما أشعر بمسئوليه غريبة تجاهك.. على إيه حال اعتبريني صديق قد تحتاجين إليه عندما تريدي التخفف من بعض أحمالك.., قالت:- أشكر لك عطفك ونبل أخلاقك, ما أحوجني فى هذا الوقت لصديق.., فقال:- أذن فقد اتفقنا بداية على الصداقة.. فأومأت بالإيجاب, فأردف:- فهل لي أذن أن أعرف اسم صديقتي الجديدة؟ فقد أخذنا الكلام ولم أعرف اسمك. فقالت:- منى. فقال:- وأنا أحمد, وقد سعدت بلقاؤك والحديث إليكِ.
فقالت:- وأنا أيضا, وأرجو ألا أكون قد أزيت نفسك بأحزاني..
فقال:- إنما يسعدني دائما مشاركتك فى كل ما تشعرين به والترويح عنك..
وإذا الوقت يمضى فى سرعة البرق, والثواني تتبخر.. فها هي الشمس من جديد تطفىء لهيب قرصها فى غمد البحر فى مشهد يفيض بالروعة والشاعريه.. مؤذنا بغروب يوم جديد.
وأستمر يحادثها غير عابىء بالوقت يتسرب وكأنه ينهل من نبع لا ينضب.. ثم انتبها فجاه أن الليل قد أنتصف وكل من حولهما قد أنصرف.. فنهضت مسرعه قائلة:- لقد تأخرت كثيرا ويجب أن أنصرف الآن.. فقال:- أسمحى لي بتوصيلك.., فقالت:- أن البيت ليس ببعيد.. انه على بعد أمتار من هنا في تلك العمارة القديمة المطلة على البحر.., فقال:- أذن أصطحبك في تلك الأمتار حتى اطمئن عليك.. فعبرا الطريق معا وسارا متجاورين حتى بلغا مقصدهما . فقال:- ها قد وصلنا, للقدر.لتقي مجددا؟ , فقالت:- اترك ذلك للقدر.. فقد نلتقي وقد لا نلتقي, فليست بأيدينا تسير مقاديرنا..,
فقال:- أرجوك أن تحددى موعدا, فما لبثت أن وجدتك فلا تقتلي ما بعثتي داخلي من الأمل, فقالت بعد تفكير وهى شاخصة إلى عينيه:- ليكن نفس المكان إذن.. أما الزمان فقد يكون غدا أو بعد غد..لا أعرف.. قال:- سأنتظرك كل يوم.. وأرجو ألا يطول انتظاري..وألا تخلفي موعدي..
ومدت له يدها لتصافحه فاستبقاها برهة بين راحتيه يستشعر دفئها وتسارع دقات قلبها.. وأخذتهما لحظة من السكون تبادلا خلالها نظرات تحمل الأسئلة والإجابات.. الأمل والرجاء..ثم سحبت يدها في بطء و ألقت التحية وسارت حتى ابتلعها مدخل أحدى العمارات..و صلت إلى شقتها و فتحت الباب في رفق وأغلقته خلفها..فعاجلها صوت حنون:- هل عدت يا ابنتي ؟ - نعم يا داده.. فيم سهرك حتى ذلك الوقت؟ - وهل يغمض لي جفن قبلك يا نور عيوني؟ - أذن فلن يغمض لك جفن الليلة على ما اعتقد.. فأضاء نور الصالة لينشق عن سيده جاوزت العقد السادس بخطوات, وقد رسم الزمان على جبينها خطوط يثبت بها مروره..و لكنها لا تمحو ما بوجهها من مسحه جمال قديمة ومظاهر طيبه ورقة شعور, لم تكن بالقصيرة ولا بالسمينة..إنما استدارت في انسجام يحفظه وقار سنها, وقد لفت رأسها بمنديل برزت من تحته بضع شعيرات وقد أحالها الزمان عن لونها الأسود الحالك إلى ذلك اللون الفضي..اقتربت داده وجيده من منى فى خطوات دئوبه وفي عينيها لهفة وسؤال – لم تأخرت يا ابنتي كل هذا الوقت وقد اعتدتى العودة قبل الغروب؟ وعن أي سهر تتكلمين؟ .. وأكملت منى حديثها وهى في طريقها لحجرتها وقد استلقت على فراشها – لقد قضيت ليله أفلتت من عداد الزمان, وما احسبني مضيعه بقيتها إلا فى التفكير فيها و استحضار صورتها.. كنت في النادي كما تعلمين كعادتي أحيانا, وقد تعرفت بشاب أحسبك ستحبينه حين تريه.
وقد تجاذبنا أطراف الحديث ولم نشعر بالوقت وقد تسرب..- حمدا لله انك قد وجدت من يهفو له قلبك..عله يعوضك عن مصاب الزمان - لا أدرى يا داده.. فلا أظن أن الشجاعة ستواتيني لأخبره الحقيقة, كما لم يعد بقلبي مكان لجرح جديد..فقد يتركني كمن سبقوه غير ملام.
- لماذا تقولين ذلك يا ابنتي ؟.. بالتأكيد سيعوضك الله عما لاقيتيه دون ذنب أقترفتيه.. فصبري
- كم أتمنى هذا.. انك لا تعلمين كم أحببته منذ لقيته.. ولا مبلغ الأثر الذي تركه فى نفسي.. يا الهي عوضني به عن كل شيء, فلن أحزن بعد ذلك إذا خسرت كل شيء وربحته..
- إن شاء الله سيتم لك ما تريدين.. أما الآن فيجب أن تنامي فقد طال بك السهر ويجب أن تستيقظي مبكرا كي تذهبي لعملك فى المدرسة.. فنامي يا ابنتي هداك الله..
فتمددت في فراشها وجذبت عليها الغطاء وقالت وهى تغالب التثاؤب – تصبحين على خير يا داده .
- وأنت بألف خير يا حبيبتي.. ثم خرجت الداده وأغلقت باب الحجرة ثم أطفأت الأنوار وهجعت إلى فراشها محاوله أن تطرد تلك الهواجس التي تلاحقها دائما حول منى ... مسكينة تلك الفتاه, فلا تكاد تفيق من صدمه حتى تلحقها أخرى وهكذا شأن الزمان معها منذ أن أفاقت على فاجعتها الكبرى التي لم تذق بعدها الراحة أبدا, فقد كانت تظن نفسها ترتكن إلى حائط صلب, لا يكاد يعكر صفو حياتها شيء.. لا تتمنى شيئا إلا ووجدته حاضرا, تنعم بحب والديها الدكتور مراد أستاذ الجراحة و الأستاذة كريمه مدرس علم النفس بكلية الآداب.. اللذان أحاطاها بدفء الأسرة وشملاها بالأمان فقد كانت وحيدتهما, ولم يكن يشغل بالها شيء من هم أو ضيق فقد كانت حديثة السن, لا يشغلها إلا ما يشغل أقرانها في مثل عمرها من مرح ولهو وأحدث الأزياء وأمتع السهرات بجانب دراستها الجامعية.. فهي من يومها جميله رشيقة, رقيقه كالنسمة الرطبة في الحر القائظ, باسمه بشوشة تملأ البيت مرحا وكانت دائما موضع أعجاب من حولها.. حتى كان ما كان من وفاه أبيها بسكتة قلبيه مفاجئه.. وما كادت تفيق من صدمتها تلك إلا على صدمه أخرى أشد وطأه..فبعد شهر من وفاه أبيها حضر محامى العائلة ومعه أعمامها الثلاثة لحصر التركة والمضي فى إجراءات أعلام الوراثة.. إنها تذكر كيف أصرت والدتها إلا تحضر تلك الجلسة لكنها أصرت بعد أن أفاقت من لهوها بموت أبيها المفاجىء أن تتحمل المسئولية وتحاول جاهده الوقوف بجوار أمها لاجتياز تلك المحنه بسلام.. وبالفعل حضرت تلك الجلسة..وكان أن علمت ما أذهلها وصدمها وأفقدها وعيها يومين كاملين كانت خلاهما في غيبوبة تامة من تأثير الصدمة العصبية..
__________________
وطنى لوشغلت بالخلد عنه**** نازعتنى اليه في الخلد نفسى
|