الصوفية
التعريف :
ـ هي من التيارات السلوكية الإسلامية تبتني على اسس اخلاقية واجتماعية، وتعتمد فكرتها على تصفية القلب والتعلق بالمعبود، برزت كطريقة وسلوك في أواخر القرن الثاني الهجري محورها تربية الروح ونبذ حطام الدنيا والاستغراق في الاعتبارات الروحية، وقد نشطت في اطار الإسلام وتطورت حتى اتصلت بآراء فلسفية.
عوامل الظهور :
ـ من العوامل التي ساعدت بشكل كبير على نشوء التيار الصوفي هي حالة التركيز على الجانب العقلي لدى معظم الفرق وتفسيرها لكثير من القضايا في اطار دائرة الفلسفة والجدل مما دفع ذلك إلى عزوف جماعات عن هذا المنحى والتجائهم إلى تحكيم النفس، وكان لابد لهم من اضفاء الصبغة الدينية على سلوكهم وطريقتهم فاخذوا يفسرون الآيات القرآنية ويتأولونها بما يتفق وأهدافهم ونزعاتهم، وقد وضعوا الاحاديث والروايات التي تبرر هذا النمط من النظر والنهج، ويظهر ذلك جليا في أراء الصوفية على مختلف نحلهم وطرائقهم.
ـ ان الكثيرين ممن دخلوا الإسلام بعد ان اجتاحت الفتوحات الإسلامية الدولتين الرومانية والفارسية كانوا يدينون بمختلف الأديان والمعتقدات بما في ذلك اليهودية والمسيحية والبوذية والمانوية والزرادشتية وقد تأثروا كثيرا بمعتقدات الهنود والصينين حتى أصبحت مظاهر حياتهم خليطا من البوذية والبرهمية والدهرية، وكان من الصعب في مثل هذه الظروف ان ينفذ الدين الجديد الى نفوسهم وقلوبهم وتألفه عقولهم بتلك السرعة بحيث يجتث معها ما توارثوه وألفوه حتى أصبح جزءا من حياتهم وكيانهم، وقد تهيأ لهم التغلغل في العواصم الإسلامية واختلطوا بالعرب الفاتحين فكان لذلك الأثر البالغ في احياء الروح التقشفية الصوفية وانتشارها في البلاد الإسلامية، والاستغراق في الاعتبارات الروحية نزعة مشتركة بين مختلف المذاهب والأديان منها الغربي ومنها الشرقي ومنها الديني ومنها الفلسفي، ونلمس ذلك جليا في أهل الكتاب، ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة .
ـ وهي العهد القديم والعهد الجديداً وأوستا، مشحونة بالدعوة إلى اصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها. ـ نقل الكثير من الكتب الأجنبية وترجمتها إلى العربية بما تحمل بين طياتها من آراء ومعتقدات من التوراة والانجيل والمانوية والمزدكية حيث كان لها، التأثير الواضح على آراء الصوفية وتبـنـيهم لها وبلغ ذلك ذروته في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، ويظهر ذلك جليا في أدب الشعر الصوفي فقد جاء فيه :
مواعظ رهبـان وذكـر فعالـهم * واخبار صدق عن نفوس كوافر
مواعظ تشفينا فنحن نـحوزهـا * وان كانت الانباء من كل كافر
مواعظ بر تورث النفس عبـرة * وتتركها ولهاء حول المقـابـر
يضاف إلى هذا كله تأثير السلوكية الرهبانية على الحياة في البلدان الإسلامية بما تحمله من أفكار تدعو إلى ترك الحياة وتشجع التقشف والاستهانة بالدنيا فقد ورد في الإنجيل :
« انه لأهون على الجمل ان يدخل خرم الإبرة من ان يدخل غني ملكوت السماوات ».
وفي موضع آخر :
« لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسامكم فيما تلبسون انظروا إلى طير السماء فانها لا تحصد ولا تزرع ولا تخزن شيئا لغدها ومع ذلكم فابوكم الذي في السماء يقوتها، افلستم انتم بافضل منها ؟ ».
ـ وتدعو الصوفية في كثير من برامج إلى محاربة الغرائز واماتتها بالتجويع ولبس الخرق والمرقعات والالتجاء إلى الكهوف والغابات والتنكر لجميع شؤون، الحياة فاصحاب السلوكيات والطرق ـ وان اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد ـ لكنهم متفقون في الرأي على وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة. وتبرز سمات التأثير السلوكي على الشخصية الصوفية حينما نلاحظ السلوكية العامة لرجال الرهبانية والمسيحية، وهذا الاشتراك يظهر في ميزات أربع تعد القاسم المشترك العملي بين جميع اصحاب تلك العقائد على اختلاف مشاربها وهي :
1 ـ الهدوء
2 ـ الاعتزال
3 ـ الايحاءات الرياضية الروحية
4 ـ احتقار الأمور المالية وهجرها
ـ يقول العلامة الفيلسوف الكبير الطباطبائي (قدس سره) (وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود، كالجوكية اصحاب الأنفاس والأوهام، وكاصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم : فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس، واما البوذية فبناء مذهبم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذا هو الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول انه كان من ابناء الملوك والرؤساء فرفض زخارف الحياة وهجر أريكة العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه واعتزل الناس وترك التعلق بمزايا الحياة واقبل عن رياضة نفسه والتفكر في اسرار الخلقة وخرج إلى الناس ودعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة).
ـ تميـَّزت التربية الصوفية الروحية حينما استـندت على جذور عريقة غاصت بها في تراث الأمم وخرجت بمفاهيم وبرامج تمخضت عن تجربة صعبة حملت فيها تأريخ الأمم والحضارات وجاءت تعكس أهم ما وصلت إليه الأمم السالفة من تجارب وأساليب في بنائها الإنساني والروحي والديني، وكونها تشترك فيما بينها في الاطار العام في النظرية الصوفية ونظرتها وتصورها عن الكيان البشري واعتباره كتلة متلاصقة من الدم والعظام والجلد والعضلات والنخاع واللحم والمني والدموع والغائط والبول، ويهيمن عليه الشوق والغضب والوجل والشراهة والوهم والشهوة والجوع والعطش والشيخوخة والموت والمرض والألم، وقالوا : كيان كهذا لابد من اماتتة لتحيا الروح وتتصل بخالقها وتنكشف لها حقائق الاشياء وخفايا الكون، وهذا العمق التأريخي للفكر الصوفي جعله ينفذ بسرعة إلى قلوب الكثيرين ويتفاعل مع النفوس بعد ان ادرك ما تحتويه تلك الأنفس وما ترغب به، فالتصوف الإسلامي لم يبق بمعزل عن المؤثرات الخارجية التي تتناغى مع الاتجاه الصوفي، ولا يمكن اخفاء التأثير الأفلاطوني والمسيحي بل والبوذي على التصوف الإسلامي وذهب بعض إلى ان لباس الصوف هو الآخر نوع تأثر بالادرية، وهم عرفاء النصارى ـ التي كانت تتبنى فكراً مزيجا من الفلسفات الشرقية والغربية.
النشأة والتطور: يتبع