الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد
فإن للفتن بنوعيها ( فتنة الشبهات وفتنة الشهوات ) نطاق انطلاق . فالفتن من شأنها التوالد والتتابع والتنوع بحيث لا تقف عند حد أو عد . والمفتون كذلك لا يعرف التوقف ، فضلا عن التقهقر أو التراجع ، فهو لا يحب أن يكون وحده الموسوم بالفتنة ، بل يعمل على إغراء غيره وجذبه إليه فيصبح لفتنته ناشرا داعيا . وأكثر الفتن إنما نشأ عن ذلك بلون من التجاري والمسارعة والتزيين .
إلقاءات ، وإغواءات وعروض مستمرة لا تتوقف من الشهوات والشبهات ، فإذا ما التقت الشهوات والشبهات ثار الهوى ، وساد فأظلم القلب ، فخالف الحق وأخفاه وإن كان ظاهرا ، وتقوّل على الله بما لا يعلم ، أو بما يعلم بطلانه ، ولم يميز بين سنة وبدعة ، وربما نكس على عقبيه فرأى السنة بدعة ، والبدعة سنة ، وتلك آفات من اتبع الشهوات والشبهات . وحاصرت الفتن قلبه فاسودّ وتجرد من كل خير ونكس فلم يعلق به خير ، وفي الحديث الذي رواه حذيفة ـ رضي الله عنه ـ وهو ممن ضبط عن نبينا صلى الله عليه وسلم أمر الفتن الكائنة في الأمة ، دليل وبيان لحقيقة تأثير الفتن على القلوب (( تُعرض الفتن على القلوب كما الحصير عودا عودا ، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرب من هواه )) رواه مسلم .
والمعنى أن الفتن تحيط بالقلب كالمحصور والمحبوس ، وأنها تلصق بعرض القلوب كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به ، ومن دخلت الفتنة في قلبه دخولا تاما أثرت فيه أثرا أسود وهو دليل السخط به فقلب القلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة .
وتأمل ما في الحديث من أمور :
• طريقة عرض الفتن على القلوب وما فيه من تتابع مستمر وما فيه من تجزأة العرض بحيث يتقبلها ولا ينفر منها لأنه يراها حقيرة . فتنة بعد أخرى ، تكرار .
• استقرار الفتن بعد ذلك ، ودخولها دخولا تاما ، كأنها حلت في القلب محل الشراب .
• ميل القلب ، وهو معنى ، التنكيس ، منكوس ، مكبوب ، نكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة .
ثم تأمل بعد ذلك . القلوب عند عرض الفتن عليها ، وصفة كل قلب ، ومآله . فمآل من تجاوب مع الفتن : اشتباه المعروف عليه بالمنكر ، فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا . وربما استبد به هذا الاشتباه واستحكمت الفتنة فاعتقد المعروف منكرا ، و السنة بدعة ، والخير شرا ، والحق باطلا ، والحلال حراما . ثم تأميره هواه ، وتقديمه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعندما يؤمر الهوى ، يخفى الحق ، ويطمس الصواب ، وإن كان ظاهرا واضحا لا خفاء فيه ولا شبهة .
والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها ، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات ، فتن الغي والضلال ، فتن المعاصي والبدع ، فتن الظلم والجهل . فالأولى توجب فساد القصد والإرادة . والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم