اعتقاد أهل السنة والجماعة :
السمع والطاعة لمن ولاه الله أمرنا، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفرًا بواحـًا عندنا فيه من الله برهان .
كما جاء ذلك منصوصاً عليه في الأحاديث الصحيحة كما سيأتي.
يقول الإمام البربهاري في كتابه العظيم شرح السنة :
" ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي، وقد شق عصا المسلمين، وخالف الآثار، وميتته ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان والخروج عليهم وإن جاروا، وذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر الغفاري : (( اصبر وإن كان عبدًا حبشيـًا )) وقوله للأنصار : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض ))، وليس في السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدين والدنيا "
ويقـول ـ أيضـًا ـ : " وإذا رأيت الـرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله . يقول فضيل بن عياض : لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان .
.... قيل له : يا أبا علي، فَسِّر لنا هذا، قال : إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد .
فأمرنا أن ندعوا لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعوا عليهم وإن ظلموا وإن جاروا، لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم، وصلاحهم على أنفسهم والمسلمين " .
ويقول محمد بن الحسين الآجري ـ رحمه الله ـ، محذرًا من الخوارج، وهم الذين يخرجون على ولاة الأمور ويقاتلونهم : " باب ذم الخوارج وسوء مذاهبهم وإباحة قتالهم، وثواب من قتلهم أو قتلوه : قال محمد بن الحسين : لم يختلف العلماء قديمـًا وحديثـًا أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن صلوا وصاموا واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموّهون على المسلمين، وقد حذّرنا الله ـ عز وجل ـ منهم، وحــذّرنـا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحــذّرنـا الخلفاء الراشدين بعده، وحــذّرنـا الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسـان، رحمة الله تعالى عليهم .
والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديمـًا وحديثـًا، ويخرجون على الأئمة والأمراء، ويستحلون قتل المسلمين .
وأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو رجل طعن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم الغنائم بالجعِرَّانة، فقال : اعدل يا محمد، فـما أراك تعدل . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (( ويلك ، فمـن يعدل إذا لم أكن أعدل ؟ ))، فأراد عمر ـ رضي الله عنه ـ قتله، فمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قتله، وأخبر عليه الصلاة والسلام : (( أن هذا وأصحابـًا له يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ))، وأمر عليه الصلاة والسلام في غير حديث بقتالهم، وبين فضل من قتلهم أو قتلوه .
ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى، واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قتلوا عثمان بن عـفان ـ رضي الله تعالى عنه، وقد اجتهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن كان في المدينة في أن لا يُقتل عثمان، فما أطاقوا ذلك .
ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، ولم يرضوا بحكمه، وأظهروا قولهم وقالوا : ( لا حكم إلا لِلَّه )، فقال علي رضي الله عنه : ( كلمة حق أرادوا بها الباطل )، فقاتلهم علي ـ رضي الله عنه ـ، فأكرمه الله ـ عز وجل ـ بقتلهم، وأخبر عن النبيصلى الله عليه وآله وسلم بفضل من قتلهم أو قتلوه، وقاتل معه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فصار سيف علي بن أبي طالب في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة " .
ويقول ـ أيضـًا ـ محذرًا من الاغترار بعبادة وصلاة واجتهاد من خرج على ولاة أمور المسلمين، وإن أظهر أن عمله من باب الحمية للدين ، وإن كان عند ذاك الوالي أمور منكرة.
فيقول ـ رحمه الله ـ : " فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي، قد خرج على إمام، عدلاً كان الإمام أو جائرًا، فخرج وجمع جماعة، وسَلّ سيفه، واستحلَّ قتال المسلمين؛ فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم، إذا كان مذهبه مذهب الخوارج " .
ويقول ـ أيضـًا ـ : " قد ذكرت من التحذير عن مذهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله ـ عز وجل الكريم ـ عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله العظيم كشف الظلم عنه، وعن جميع المسلمين، وصلّى خلفهم الجمعة والعيدين، وإن أمروه بطاعتهم فأمكنته طاعتهم أطاعهم، وإن لم تمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإن دارت بينهم الفتن لزم بيته، وكَفَّ لسانه ويده، ولم يهوِ ما هم فيه، ولم يُعِن على فتنة . فمن كان هذا وصفه كان على الطريق المستقيم إن شاء الله تعالى " .
ويقول الإمام أبو جعفر الطحاوي : " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة " .
يقـول الإمام ابن أبي العـز الحنفي، شارح الطحـاوية ـ معلقـًا على ذلك الكلام ـ :
" وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله ـ تعالى ـ ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل، قـال ـ تعالى ـ : { وما أصـابكم مـن مصيـبة فبـما كسـبت أيـديـكم ويعـفـوا عـن كـثـير }، وقال ـ تعالى ـ : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم }، وقال ـ تعالى ـ : { وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك }، وقـال ـ تعالى ـ : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضـًا بما كانوا يكسبون }، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم "
قال الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ : " بـاب قـول النبيصلى الله عليه وآله وسلم : (( سترون بعدي أمورًا تنكرونها ))، وقال عبد الله بن زيد، قال النبيصلى الله عليه وآله وسلم : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )) . ثم ذكره بسنده إلى زيـد بن وهـب قال : سمعـت عبد الله قــال : قـال لـنـا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إنكم سـترون بعـدي أثـرة وأمـورًا تنكـرونهـا )) قالوا : فمـا تأمرنا يا رسول الله ؟، قال : (( أدّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم )) .
وبسنده ـ أيضـًا ـ إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (( من كره من أميره شيئـًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية )) .
وروي بسنده ـ أيضـًا ـ إلى جنادة ابن أبي أمية قال : دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلت : أصلحك الله، حدِّث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال دعانا النبيصلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا : (( أن بايَعَنَا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحـًا عندكم من الله فيه برهان ))."
وقال ـ أيضـًا ـ رحمه الله : " باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده أشر منه، ثم روى بسنده إلى الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال : اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكمصلى الله عليه وآله وسلم " .
وقال ـ أيضـًا ـ رحمه الله تعالى : ( باب السمع والطاعة للإمام، مالم تكن معصيـة . ثم روى بسـنـده إلى أنس بن مـالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( اسمعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي، كأن رأسه زبيبة )) .
وبسـنده إلى نافـع عن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قـال : (( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة )) .
وروى مسلم في صحيحه بسنده إلى أبي هـريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني )).
وبسنده إلى أبي ذر قال : ( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا مجدّع الأطراف ) .
وروى ابن أبي عاصم بسنده إلى أبي بكرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (( السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله )).
وبسـنده ـ أيضـًا ـ إلى عبـادة بن الصـامـت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قـال : (( اسمع وأطع، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك )).
وبسنده إلى العرباض بن سارية، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعظهم يومـًا موعظة بليغة بعد صلاة الغداة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل : يا رسول الله، إن هذه موعظة مودّع، فما تعهد إلينا ؟، قال : (( أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة )).
وبسـنده إلى ابن عـمر قــال : جـاء رجـل إلى النـبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله، أوصِنِي . قال : (( اعبد الله، ولا تشرك به شيئـًا، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت، واعتمر، واسمع وأطع، وعليك بالعلانية، وإياك والسِّـر )).
وبسنده إلى عوف بن مالك يقول : سمعت رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقـول : (( خيار أئمتكم : الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم : الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم )) قلنا : يا رسول الله، أفلا ننابذهم ؟، قال : (( لا، ما أقاموا فيكم الصلاة . ألا من وَلِيَ عليه وَالٍ فرآه يأتي شيئـًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة )).
وبسـنـده إلى أبي سعـيد الخــدري قـال : قـال رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( يكون أمراء تلين لهم الجلود، ولا تطمئن إليهم القلوب، ثم يكون أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقـشـعر منهم الـجلود )) فقـال رجـل : يا رسول الله، أفلا ننابذهم ؟، قال : (( لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)) .
وبسنده إلى زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) .
وبسنده إلى تميم الداري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( الدين النصيحة )) قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : (( لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين أو المؤمنين، وعامتهم )) .
وبسنده إلى عياض بن غنم، أنه قال لهشام بن حكيم : ألم تسمع بقول رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده، فيخلوا به . فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه ))