عتبة التجويق، التجويف
كيف يكون الشعر تجويقا … ؟
كيف يكون الشعر تجويفا … ؟
بل كيف يكون الإبداع ، شعرا ورواية ، مسرحا… تجويقا وتجويفا… ؟في البدء، ينبغي أن نحدد ما معنى " التجويق" وما معنى " التجويف" حتى نتبين متى يكون الشعر، والإبداع عامة "تجويقا"،ومتى يكون "تجويفا" لنتمكن من قياس درجة الإبداعية والخلق و الابتكار في الشعر و الإبداع،وحتى نتمكن أيضا من قياس درجة الاجترار والاسترفاد والتزود والاحتماء المباشر بالمضامين والأفكار والمعطيات المعطاة سلفا ، والجاهزة قبلا …
التجويق من الجوقة ، الجوقة تحيل إلى التشابك والتداخل والتقاطع في الأصوات والألحان والأنغام ، في الآلات والماعون ، آلات النفخ والضرب والصفير ، آلات الوتر والريشة والمصير ، ( ) التجويق يحيل إلى التغريد ، والتغريد يحيل إلى الاشتباك والتشابك والتداخل والتقاطع :
"فاشتبكي يا ورق تغريدا"
واشتبكي يا أطيار، يا عصافير جوقة، وتطريبا، ويا أغصان، اشتبكي في رحم الأرض، وانسجي غثاء الأمواه والطمي الطوفان !
ومثلا حين نبني نصل روائيا،نحتمي فيه بأفكار و شخصيات ومعطيات عصر من العصور. قد يكون دولة المماليك، قد يكون عصر الفراعنة أو عصر "قاع قلة"،وقد يكون أشخاصا و أحداثا بعينها في عصر بعينه،في وقائع وحوليات بعينها،مسجلة في كتب : التقاويم،والأخبار،والبلدان،وكتب المسالك والممالك،وكتب الخطط… حين يفعل الروائي ذلك مستغلا كل ذلك أو بعضا من ذلك،يكون "مجوقا" يحتمي في إبداعه،في فنه ب "التجويق"،ذلك أن "التجويق" بهذا المعنى يصبح تجميعا لأحداث ولمعطيات تاريخية ولأشخاص تاريخيين بالأساس ثم يشبكهم أي "يجوقهم" حيث يتقاطعون و يتشابكون ويتداخلون،فيتجاوقون… وهو في كل هذا يكاد يكون لا فضل له. بل لا إبداع فيما أبدع وأنتج،إلا ما كان من جهد "التجويق" أي الجمع والبناء،والتركيب لمادة هي مخلوقة،وحاصلة سلفا،من هنا نقول :إن كتابة رواية اعتمادا على إعادة كتابة وصياغة الحوادث والشخوص والمعطيات التاريخية ،هو "تجويق" وليس إبداعا ولا رواية،بسبب غياب الخلق والإبداع، والمقصود بالخلق والإبداع هنا،هو تشييد عوالم روائية تخييلية تقوم على خلق العالم والأحداث والشخوص وابتداعها من داخل مخيلة الروائي المبدع،لا من داخل بطون الكتب والحوليات التي يسترفد منها ويتزود الروائي "المجوق"،الطاعم الكاسي… الحاصل على مادة روايته سلفا،جاهزة،معلبة في كتب التاريخ و الخطط،وكتب المسالك والممالك،وديوان العبر وما حدث للعرب والعجم والبربر… كل ذلك باطل وقبض ريح،كل ذلك تجويق…
تجويق ليس سوى تجويق… !
على أن ما ينطبق على الروائي "المجوق" ينطبق على الشاعر "المجوق" أيضا،بالتمام والكمال،فحين يعمد الشاعر إلى حوادث التاريخ و وقائعه،فينظمها،فيشبكها أي يجوقها،فهو شاعر "مجوق" ، تجويق ليس سوى تجويق…
وحينما يتزود الشاعر من الحوليات والرزنامات بالمعطيات والأفكار والمادة الجاهزة سلفا، ثم يعمد إلى نظم هذه المادة في سلك الوزن والقافية والعروض،حتى ليبدو أن لا فضل له،إلا ما كان من فضل "كبس" المادة المحصلة سلفا، في قالب الإيقاع والوزن والعروض… حين يعمد الشاعر إلى هذه المسلكية،فإنه يظهر بمظهر الشاعر "المجوق" ويسلك مسلكية شعرية هي مسلكية "التجويق".
تجويق، تجويق
ليس سوى تجويق
هذه المسلكية الشعرية "التجويقية" يمثلها نظم الحوادث والوقائع والتواريخ والحوليات،شعرا،في مطولات شعرية،تنسخ شعر ما قيدته كتب التاريخ والوقائع… والشاعر "المجوق"،هنا يبدو واطئ الخيال و الإبداع،مقصرا،فهو الطاعم الكاسي،يعيد اجترار ما أطعمته إياه كتب الوقائع من مادة جاهزة سلفا.إن الشعر،و الإبداع هو الخلق،وليس التزود والاسترفاد،ثم اجترار و إعادة ما تم استرفاده والتزود به ،دون أن يجري فيه الشاعر أو المبدع "مسا وطيفا" من جنون الخلق والإبداع،إن الكتابة بواسطة ومن خلال غرابيل "الاسترفاد" و "التزود" بالمادة –ولتكن مثلا، المادة التاريخية- الجاهزة،لهي كتابة شاخصة،ناتئة،نيئة كالأطلال الشاخصة،الناتئة والجارحة للعين، لم تهب عليها لا ريح الشمال و لا ريح الجنوب،لتلطف من شاخصيتها ونتوءاتها المسننة… إن الريح التي تهب على الأطلال فتغير من معالمها تشبه مس الإبداع والخلق الذي يجريه الشاعر المبدع والروائي المبدع في مادته الأولية فيغير من معالمها ونكهتها،ويعمي مرجعيتها أو يكاد،كما تغير وتعمي الريح المتعاقبة من معالم ونتوءات الأطلال الشاخصة… أو إذا شئت قلنا : يبقي على "المادة" التي استرفدها ، ولا يبقي عليها في نفس الآن ، يحتفظ بها ولا يحتفظ بها في نفس الآن ، يقع في أسرها ولا يقع ، حينما يتعاطى المبدع شاعرا أو روائيا مع "مادته " بهذه المسلكية ، يكون قد دخل دائرة " التجويف " المرادف لإبداع في هذا السياق ، فيجري في مادته " تجاويف " و "أخاديد" ، و " فجوات " تغير من المادة الحاصلة لديه سلفا ، ففي هذه الأخاديد،والتجاويف والفجوات تصفر الريح،وتمر نسائم الأصيل،ويسري ماء النص،فتزول زهومة "المادة"ورائحتها الأصلية،فتكتسب تعديلا وتغييرا،وفي التعديل والتغيير يحصل "التجويف"،وبالتجويف يكون الإبداع،وبالإبداع يكون مس من جنون.
الباحة و السنديان - أبو الشتاء
|