نظرية عامة للترجمة؟ توجهات نحو نظرية التفاهم
توجهات نحو "نظرية التفاهم".. "نظرية عامة للترجمة"؟
جاء كاتب هذه السطور إلى أوروبا الغربية في مطلع التسعينات ممتلئ الرأس بالأفكار المألوفة عند المثقفين السوريين "التقدميين" (ملاحظة: أعد نفسي واحداً من هؤلاء المثقفين ولا يغير من ذلك شيئاً انتماء عائلتي إلى "بلد آخر" بحسب السيدين سايكس وبيكو لعنهما الله هو فلسطين ولم أكن أنا ولا كان وسطي الفكري ممن يفرق بين البلدين بغض النظر عن وجهة نظرنا في الأنظمة السياسية) التي سمتها الظاهرة هي النزعة الإنسانوية الساذجة التي ترى أن الإنسان واحد في كل مكان وأن الاختلافات في الهوية الثقافية بين الحضارات مجرد ظواهر عرضية ثانوية الأهمية لا تأثير لها ومما يوضح هذه الفكرة أننا كنا نعتقد أن أي فرد في العالم يمكن أن يفهمنا فوراً وأن نفهمه فوراً بنفس العمق الذي نفهم فيه ويفهمنا فوراً عربي من مجتمعنا و أن مشكلة التفاهم لا تزيد عن مشكلة ترجمة آلية بحيث أننا لو تصورنا وجود آلة للترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى وبالعكس فإن الحوار والتفاهم مع أي فرد من أي حضارة بشرية على كوكب الأرض يتم بسهولة وسلاسة وبدون أي مشاكل.
في أوروبا الغربية اكتشفت بالطبع فوراً أن هذا الاعتقاد لم يكن إلا تصوراً طفولياً ساذجاً ناتجاً عن انعدام الخبرة والاحتكاك بالشعوب الأخرى ويعززه التوجه الأيديولوجي التقدمي الذي كان لا يعرف أصلاً مفهوم الهوية وحين يسمع بهذا المفهوم ينظر إليه باسترابة و الأغلب أن يسمه بالرجعية والتعصب القومي وربما الديني.
اكتشفت ببساطة أنني كنت ساذجاً ورأيت أن رفاقي في الفكر الذين ظلوا في الوطن ولم يتعرضوا لما تعرضت له من نفي ظلوا على سذاجتهم.
ورأيت بوضوح أن إنسانويتي أنا ومن كان يفكر مثلي كانت في حقيقتها تعصباً لتجربة حضارية واحدة هي التجربة الغربية و أننا في الواقع رغم إنسانويتنا المعلنة كنا عنصريين ذاتيين إن صح التعبير فقد كنا نحتقر ثقافتنا الخاصة ونفضل الثقافة الغربية عليها في كل شيء، و مع الأسف فإن هذا الوضع هو السائد لحد الآن في المشهد الثقافي في سورية ولم يتغير أي تغير يذكر.
وصولك من الوطن العربي إلى الغرب لا يعني بالضرورة أنك ستتغير بنفس الاتجاه الذي تغيرت فيه فمن الإنسانويين من يصل إلى الغرب ويحتفظ بإنسانويته وكثيراً ما يكون هذا حلاً مريحاً لأنه يوحي إلى صاحبه بانه قادر على "التحول إلى غربي" في أي لحظة وإنه إن كان لم يحقق ذلك إلى الآن إلى درجة مرضية فإن هذا عائد إلى أسباب تقنية بحتة يمكن التغلب عليها بالمثابرة والصبر أما من يستنتج الاستنتاجات اللاإنسانوية التي قد تتمخض عنها النزعة التأصيلية في جملة ما يمكن أن يتمخض عنها فإنه سيرى أولاً أن تحوله إلى غربي أمر مستحيل وبعد هذا يمكن أن توصله هذه القناعة إلى البحث في الأشكال الممكننة للعلاقة بين الثقافات المختلفة وبشكل خاص في حالتي وصلت إلى الاقتناع بضرورة البحث الجدي في الشروط التي يجب أن تتوفر لكي تتوصل الثقافات المختلفة إلى فهم متبادل صحيح وهذا ما أدعوه في مقالاتي بنظرية التفاهم ويمكن أيضاً تسميته "النظرية العامة للترجمة".
النظرية العامة العتيدة للترجمة يجب أن تبحث في إيجاد ما يدعى في بعض أبحاث علم الترجمة الأوروبي "المكافئ"equivalence (1) ليس للنصوص اللغوية فقط بل لكافة "نصوص" ما دعوته "اللغات الموازية" ولنأخذ كمثال الموسيقى:
من الملاحظات التي لا بد أن يلاحظها سواء المغترب أم الباحث في مقارنة الثقافات الفروق بين الشعوب في أنظمة الموسيقى فما يدعى بالموسيقى الشرقية يختلف اختلافاً بيناً عما يدعى بالموسيقى الغربية ويمكن أن نلاحظ الاستخدام الخاطئ للصفة "شرقي" إذ أن "الموسيقى الشرقية " يقصد بها عادة الفروع المركبة المعقدة المدنية من الموسيقى العربية في مصر والمشرق العربي والموسيقى التركية والموسيقى الفارسية بإهمال يزيد أو يقل للموسيقى الشعبية والموسيقى الكردية ولكن الإغفال الكبير على كل حال يبقى أن موسيقى شعوب الشرق الكبرى مثل الصين والهند وأندونيسيا غير مشمولة بمصطلح "الموسيقى الشرقية".
في الحقيقة نحن هنا بإزاء واحد من الاختلافات الكبيرة بين الحضارات وهو ما دعوته مرة باللغات الموازية فإذا اعتبرنا الموسيقى دالاً وتأثيرها الانفعالي مدلولاً وجدنا بالتجربة أننا يصعب أن نرى أن الموسيقى هي حقاً لغة العالم التي يدعون أن الشعوب كلها تفهمها ولأضرب على ذلك مثالاً واحداً:
في الموسيقى العربية ثمة مقام هو مقام الصبا يتميز بالنسبة للمستمعين العرب الحاليين بميزة عاطفية واضحة لا يكاد أحد في المشرق العربي لا يميزها هي ميزة الحزن وقد قام الباحث الموسيقي العربي الفلسطيني حبيب حسان توما بتجربة ذات دلالة وصفها في كتابه المنشور باللغة الألمانية Die Musik der Araber "موسيقى العرب" وفيها اختار مجموعة من العرب ومجموعة ثانية غير عربية وطلب من أفراد المجموعتين أن يحددوا الانفعالات التي أثارها فيهم سماعهم لمقطوعة من مقام صبا وقد وجد الباحث أن ثمانية وأربعين بالمائة فقط من المجموعة القادمة من خارج المجتمع الأهلي أجابوا بطريقة مشابهة لإجابة العرب ولو أن المرء يمكن أن ينتقد هذا المصطلح "غير العرب" وحتى مصطلح "العرب" بسبب أن الموسيقى العربية لا تختلف بنفس الدرجة عن موسيقى كل الشعوب (اختلافها عن الموسيقى اليونانية أقل من اختلافها عن الموسيقى الصينية مثلاً) ولأسباب أخرى منها مثلاً الاختلاف بين العربي المتمرس بسماع الموسيقى العربية وغير المتمرس ثم الفروق الفردية بين من يمتلك "أذناً موسيقية" ومن لا يمتلك (وهذا يطرح للبحث أيضاً ماهية هذه "الأذن الموسيقية" وعوامل تكونها وأسباب اختلافها بين الناس)(2).
وفي الحقيقة أكاد لا أشك في أن التحليل الدقيق للمدلول الانفعالي لمقام الصبا عندنا يمكن أن يمد البحث في علم الثقافة المقارنة بدفعة هائلة إلى الأمام لتقرير واقعية مطلب "النظرية العامة للترجمة".
وما ينطبق على الموسيقى ينطبق على "الفنون التشكيلية" والفنون عموماً فنحن هنا إزاء استعمال منظومات متماسكة من المؤثرات الحسية تختلف بين الثقافات ولعلنا حين نتحدث عن "نظرية عامة للترجمة" فإننا يخطر على بالنا وجود (أو عدم وجود) "مكافئ انفعالي" كما يمكن أن نسميه لقطعة فنية معينة من الثقافة "أ" (مثلاً قطعة موسيقية أو لوحة إلى آخره) في الثقافة "ب" وهذا النوع من "الترجمة" بالمعنى الموسع إذا كان موجوداً فقد يكون هو الأمل بإنقاذ الفكرة الإنسانوية التي تجاوزتها النسبية الثقافية وسيكون البرهان على إمكانية هذه الترجمة الموسعة بمثابة انتقال إلى إنسانوية ناضجة تستفيد من خبرات الاكتشافات التي ألهمتها فرضية النسبية الثقافية ولكن الترجمة الموسعة لم تظهر إلى الآن بصورة مقنعة وما هو موجود إلى الآن هو العزلة شبه المطلقة
هوامش:
(1) انظر حول مفهوم"المكافئ" في الترجمة Wolfram Wilss,The Science of Translation Problems and Methods,Gunter Narr Verlag Tübingen,1982,pp135-155
(2) Habib Hassan Touma,Die Musik der Araber, ,Heinrichshofen´sverlag,Wilhelmshaven,1975.pp65-66:
|