انه لمن المثير للاهتمام متابعة روبرتس، في كيفية توفيقه بين هذه التأكيدات المضحكة وآخر الدراسات حول الفظائع التي ارتكبتها القوات البريطانية في كينيا الاستعمارية، اثناء ثورة الماو ماو في الخمسينات: رُميَ 320 ألف من "الكيكويو" في معسكرات الاعتقال، 1090 أُعدموا شنقا، اعمال عنف منظّمة لارهاب القرويين، اضافة الى التعذيب بالصّدمة الكهربائية والضرب والاغتصاب الجماعي، كما تفصّل كارولين الكين في كتاب صدر مؤخرا بعنوان "الغولاغ البريطاني" [5] . محصّلة رهيبة تقدّر بما يتجاوز المئة ألف قتيل.
في تلك السنوات، كان الجندي البريطاني يحصل على علاوة بقيمة 5 شيلينغ (7 يورو بالسعر الحالي) في كل مرة يقتل فيها احد افراد "الكيكويو" الذكور، ولم يكن الجيش ليتردّد في تعليق الاطراف البشرية المبتورة للمتمرّدين الأفارقة فوق لوحات اعلانية. وفي حرب اخرى، أوقعت اكثر من 100 الف قتيل (ماليزيا)، كان افراد الجيش يتصوّرون وفي ايديهم الرؤوس المقطوعة "للارهابيين" الشيوعيين الماليزيين. يصف احد الافلام الوثائقية، الذي بثّته مؤخّرا احدى محطات التلفزة [6]، أعمال التعذيب والاغتيال التي مارسها الجنود البريطانيون في نهاية الستينات، قبل انسحابهم من عدن، وقد رفض احد الجنود تفصيل هذه الممارسات خشية ملاحقته بارتكاب جرائم حرب. ارتُكِب كلّ ذلك باسم الحضارة، والخطّ واضح في استمراريته مع ما يحصل اليوم في العراق.
تأتي هكذا مسلّمة في وقتها لتصحّح وهماً مناسباً يدّعي أنّ بريطانيا، وخلافا لفرنسا وغيرها من الدول الاوروبية الاستعمارية، نجحت في انهاء عهدها الاستعماري بصورة سلمية وانسانية. انّ فصول العنف التي طبعت تراجع الامبراطورية، لم تكن احداثاً معزولة في سياق مسار مجيد من الحرية وحسن الادارة، كما يحاول اقناعنا السيد فرغوسن وغيره من حملة بيارق الامبريالية الحديثة.
فالامبراطورية البريطانية، القائمة في الواقع على عمليات ابادة وتطهير عرقيّ واستعباد واسع النطاق، فرضت بكلّ دقة تراتبيّة عرقيّة واستغلالاً لا رحمة فيه. ونستشهد هنا بالمؤرّخ في كمبريدج، ريتشارد درايتون: "شنفت آذاننا بالكلام عن سلطة القانون والحكومة النظيفة الكفّ والتطوّر الاقتصادي، بينما الحقيقة كانت استبداداً وظلماً وفقراً وملايين الملايين الذين ذهبت حياتهم سدى" [7] .
يدّعي بعض المتحمّسين للامبراطورية أنه، بالرغم من القساوة التي تميّزت بها المرحلة الاستعمارية الاولى، فانّ القرنين التاسع عشر والعشرين اتّسما بالحرّية والتقدّم الاقتصادي. انها حماقة. ففي الهند، جوهرة التاج الامبراطوري، أوقعت المجاعات، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أكثر من 30 مليون ضحية، لكنّ ذلك لم يمنع الادارة البريطانية من تصدير مواسم الحبوب (كما في ايرلندا خلال المجاعة الكبرى في اربعينات القرن التاسع عشر)، كما لم تمتنع المحاكم عن الأمر بـ 80 ألف عملية جلد سنوياً.
توفّي اربعة ملايين شخص من الجوع في البنغال، عام 1943، في ظروف كان يمكن تفاديها، خصوصاً وانها لم تتكرّر منذ الاستقلال. فبنغلادش الراهنة كانت من اغنى مناطق العالم، قبل وصول البريطانيين الذين فكّكوا عمداً صناعتها النسيجيّة. ويوم ضرب التسونامي جزر اندامان، مَن تذكّر انه في مطلع القرن العشرين كان هناك 80 الف سجين سياسي، معتقلين في معسكرات مقامة فيها، استُخدموا للتجارب من قبل اطباء الجيش البريطاني [8] ؟
لم تجرِ في بريطانيا أيّ محاولة جدّية لمواجهة هذه الحقائق والنتائج المستديمة المترتّبة عن الاستعمار المفروض على مجتمعات، من كشمير الى فلسطين ومن زيمبابوي الى العراق. أمّا من شاركوا في الادارة الاستعمارية، فيمكنهم تمضية تقاعد هانئ في "سوراي" دون ان يخشوا أيّة مساءلة قانونية. وتتضمّن كتب التاريخ المعاصر، الموزّعة على طلاب الثانويات في سنّ السادسة عشرة، فصولاً كاملة حول الحروب العالمية والحرب الباردة وتطوّر نمط الحياة في اميركا وبريطانيا ونظام الارهاب الستاليني والفظائع النازية، لكن عملياً لا كلام عن الامبراطوريات الاوروبية، البريطانية وغيرها، التي تقاسمت هذا القسم الكبير من العالم، ولا ذكر للجرائم التي ارتكبتها.
ان البلاد ليست بحاجة الى اعتذارات او مظاهر الشعور بالذنب، بقدر ما انّ المطلوب تدريس هذا التاريخ والاعتراف بالخطأ وتعويضه الى حدّ ما: الادراك بأنّ البربرية تأتي نتيجة حتميّة لمحاولة فرض سلطة غريبة على شعوب مغلوب على أمرها. انّ من يخرجون الوحشيّة الاستعمارية من تاريخ القرن العشرين يحاولون شرعنة الامبريالية الجديدة ـ الغارقة اليوم في وحول العراق ـ كما يسوّدون صفحة من حاول تاريخياً بناء مجتمع غير رأسمالي، ليبرهنوا أنّ الخيار الامبريالي هو الوحيد المتاح. اذا كان السيد براون يطمح فعلاً الى استعادة لعبة الشرف البريطانية التقليدية واقامة علاقات مختلفة مع افريقيا، فمن الأفضل له، بدل تبجيل الاستبداد العنصري، ان يحتفظ بمديحه لهؤلاء الذين استنكروا هذا الاستعمار وناضلوا من أجل حرّية المستعمرات.
[1] Daily Mail, 15 janvier 2005 et 14 septembre 2004.
[2] 14/9/2003
[3] John Kampfner, Blair’s Wars, Free Press, Londres, 2003.
[4] Robert Cooper, Reordering the World, Foreign Policy Centre, 2002.
[5] Caroline Elkins, Britain’s Gulag, Jonathan Cape, Londres, 2005.
[6] Empire Warriors”, BBC, 19/11/2004
[7] خطاب في الجمعية الجغرافية الملكية، لندن، 1/6/2004
[8] Mike Davis, Last Victorian Holocausts, Verso, Londres, 2001.
|