بسم الله الرحمن الرحيم
السيد سيد الصبر المحترم
ترددت كثيرا قبل الاجابه وذلك بسبب اسلوبك في النقاش بدعوى (المزعوم) أرجو أن تختار ألفاظك بعنايه حتى أختار ألفظي معك بعنايه أيضاخاصة أنك تتحدث عن علماء أجلاء يفتون فإن أخطأوا فلهم أجر وإن أصابوا فلهم أجران
وإن من أصول منهج السلف احترام العلماء وتوقير الفقهاء، والتأدب معهم غاية الأدب، فإن الجناية على العلماء خرق في الدين، ومن هنا قال الإمام الطحاوي: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".
لأن العلماء كما يقول الإمام أحمد بن حنبل:"هم خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا".. قيضهم الله لحفظ الدين، ولولا ذلك لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، وهم في كل زمان الأصل في أهل الحل والعقد، وهم المعنيون مع الأمراء في قوله تعالى
وَأَولي الأمر)[النساء:] ولذلك كان الوقوع فيهم من أكبر الذنوب وفاعله لا يفلح أبداً.
قال ابن المبارك: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته.
قال ابن الأذرعي: الوقيعة في أهل العلم لا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب.
وقال أبو سنان الأسدي:إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس متى يفلح.
وقال الإمام أحمد:لحوم العلماء مسمومة من شمها مرض ومن أكلها مات.
وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلم عنده على أحد الناس: مه.. لا تذكر العلماء بشيء فيميت الله قلبك.
وما أجمل قول ابن عساكر بعد هذه الأقوال الجميلة: واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63].
وقد ذكروا عن رجل (الفقيه محمد بن عبد الله الزبيدي) أنه كان كثير الوقوع في الإمام النووي ـ رحمه الله ـ فقال الجمال المصري: أنه شاهده عند وفاته، وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الإمام النووي ـ رحمهم الله جميعاـ.
فاحذر أخي من التطاول على العلماء فإن ورثة الانبياء
وما من كاتب إلا سيلـــقى.. .. ..كتابته وإن فنيـــــــــت يداه
فلا تكتب بخظك غير شيء.. .. ..يسرُّك في القيامة أن تراه
ولكن اريد أن أفترض هنا حسن النيه وأن أجيب على أسئلتك حسب المراجع التي قرأتهاوالله من وراء القصد.
إن عقد زواج الرجل الذي بيَّت نية تطليق زوجته إذا قضى منها وطراً، بعد زمن محدد أو غير محدد من طرفه، دون إشعار الزوجة بذلك، ولا الاتفاق معها عليه، عقد شرعي صحيح، وإن تلبس بالحرمة بسبب ما فيه من كذب وغش وخداع و ظلم محرم.
وقد يستغرب البعض قولنا: إن العقد صحيح، مع قولنا: إن فيه من الكذب والغش والخداع والظلم المحرم ما يأثم صاحبه عليه، ولا تبرأ ذمته منه إلا بتوبةٍ وإباحة.
و بيان ذلك: أن صحة العقد مترتبة على قيام أركانه وتوفر شروطه، وهي:
أولاً : الإيجاب و القبول من الطرفين، والمقصود به اتفاق رغبتيهما على الزواج وفق ما بينهما من شروط، ومهر مسمى .
ثانياً : موافقة ولي الزوجة، وهو شرط عند جمهور العلماء.
ثالثاً : تسمية ( تحديد مقدار ) المهر المدفوع للزوجة، أو الثابت لها في ذمة الزوج.
رابعاً : إعلان الزواج وإشهاره، وأقل ما يتم الإعلان به إشهاد ذَوَيْ عدل على العقد.
فأيما عقد قران استوفى هذه الشروط فهو عقد صحيح، والمراد بكونه صحيحاً أن تترتب عليه آثاره الشرعية، ولا يخرجه عن الصحة ارتكاب أحد طرفيه أمراً محرماً كالغش والتغرير ونحو ذلك، بل يظل العقد صحيحاً، ويبوء الآثم بإثم ما اقترف.
و عليه فإن الرجل الذي تزوج مبيتاً نية التطليق، والعزم عليه عاجلاً أو آجلاً تلزمه آثار عقد النكاح ديانةً و قضاءاً، ومن أهمها :
• إلحاق أبنائة من ذلك النكاح به نسباً.
• إلزامه بالنفقة والسكنى و سائر ما أوجبه عليه الشارع تجاه أبنائة ، و زوجته ما دامت في عصمته، أو عدَّةِ طلاقها منه.
• لزوجته النفقة وعليها العدة إذا طلقها، ولها مع ذلك حقها من إرثه إن مات قبل أن يطلقها.
وهذه الأمور وغيرها مما أوجبه الشارع الحكيم سبحانه لا تجب إلا من عقد صحيح، ولا أعلم أحداً من أهل العلم لم يثبتها في زواج من بيَّت نية الطلاق قبل الزواج ، فلزِمَ أن يكون عقداً صحيحاً.
بل المعروف عن جمهور العلماء ( من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم ) رحمهم الله تعالى هو القول بصحة هذا النكاح فقد جاء في [ فتح القدير في الفقه الحنفي، ص : 349 ] قول الكمال بن الهمام رحمه الله : ( لو تزوج المرأة وفي نيته أن يقعد معها مدة نواها صحَّ، لأن التوقيت إنما يكون باللفظ ) .
وقال الإمام الباجي المالكي رحمه الله [ في المنتقى بشرح موطأ الإمام مالك : 3 / 355 ] : ( من تزوج امرأةً لا يريد إمساكها، إلا إنه يريد أن يستمتع بها مدةً ثم يفارقها، فقد روى محمد عن مالك أن ذلك جائز ) .
أما عند الشافعية فقد جاء [ في حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج : 6 / 210 ] : ( أما لو توافقا عليه قبل و لم يتعرضا له في العقد لم يضر لكن ينبغي كراهته ) و[ في نهاية المحتاج : 6 / 277 ]: ( خرج بذلك إضماره ، فلا يؤثر وإن تواتطآ قبل العقد عليه . نعم ، يُكره إذ كل ما لو صرح به أبطل يكون إضماره مكروهاً، نص عليه ) .
و قال الإمام النووي رحمه الله: ( قال القاضي : وأجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً و نيَّتُه أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال ، و ليس نكاح متعة. وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. و لكن قال مالك : ليس هذا من أخلاق الناس . وشذ الأوزاعي ، فقال : هو نكاح متعة ولا خير فيه ) [ شرح صحيح مسلم : 9/182 ].
وانظر نحو ذلك في [ الحاوي، للماوردي : 9 / 333 ] و[ مغني المحتاج، للشربيني : 3/183 ].
و من الحنابلة قال محقق المذهب الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ كما في المغني مع الشرح الكبير : 7 / 573 ] : ( و إن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال : هو نكاح متعة . والصحيح : أنه لا بأس به ، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته ، وحسبه إن وافقته وإلا طلقها ).
وقد أسهب في تحرير هذه المسألة، وأطال النفس في الانتصار إلى ما ذهب إليه الجمهور من تصحيح نكاح من نوى الطلاق ما لم يشترطه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فارجع إليه وانظره محتسباً [ في مجموع الفتاوى : 32 / 147 ].
ولا يحسبن أحدٌ أننا إذ نفتي بصحة عقد الناكح يريد الطلاق أننا نحل نكاح المتعة، أو ندعو لخفر الذمم، ونقض العهود!
لا والله ، ومعاذ الله، فنكاح المتعة ثبت تحريمه بما لا لبس فيه من نصوص السنة النبوية، ثم انعقد إجماع أهل العلم على تحريمه ، فكان هذا كافياً في تحريمه، والتحذير منه شرعاً ، أما الزواج بنية الطلاق فلا دليل على حرمته أصلاً، ولا ذكر له – على التخصيص - في نصوص الشريعة المطهرة أساساً.
و لا يخفى ما بين نكاح المتعة والنكاح بنية الطلاق من فوارق من أبرزها:
• إن نكاح المتعة يتم بالاتفاق بين الزوجين ( على فرض صحة تسميتهما زوجين ) على الأجل المضروب بينهما للنكاح، وتقع الفرقة بينهما بمجرد انقضاء الأجل، أما الزواج بنية الطلاق فلا يفرق فيه بين الزوجين إلا بطلاق بائن وعدة واجبة.
• إن المرأة في نكاح المتعة لا حق لها سوى الأجر ( المسمى صداقاً )، بخلاف المتزوجة ممن ينوي طلاقها، فلهذه الحق في الميراث والمتعة في العدة وسائر حقوق الزوجة على زوجها.
• عدة المطلقة من نكاح من يضمر نية الطلاق كعدة مثيلاتها من بنات جنسها، أما في المتعة فللمرأة بعد انقضاء أجل متعتها عدة خاصة تخالف عدة المطلقة ومن مات عنها زوجها من المسلمات.
• إن الزواج بنية الطلاق قابل للاستمرار والديمومة إذا أراد الزوج ذلك، وغير من نيته، أما في المتعة فلا حق للزوج في الاستمرار مع زوجته، ولا حق لها في ذلك بعد انقضاء الأجل المضروب بينهما، بل تجب الفرقة فوراً.
فهل يقول منصف يرى هذه الفوارق ويقف على غيرها أن من أفتى بصحة الزواج بنية الطلاق قد أحل ما حرم الله، وسوى بين النكاح المشروع ونكاح المتعة الممنوع؟!
صحيح أننا نفتي بصحة نكاح من يريد الطلاق ما لم يشترطه، ولكننا لا ندعو بذلك إلى التساهل في حل عِرى النكاح، أو التحريض على الغش والتغرير بفتيات المسلمين، والاستهانة بالأعراض، حاشا وكلاّ.
و لكننا ننظر إلى هذه الحكم باعتباره وسيلة لتحصين الشباب، وإيصاد أبواب الفتن المشرعة في وجوههم، وأخص منهم من قُدِّرت عليه الغربة فلم يجد منها مفراً، وحاصرته الفتن فلم يحُر لنفسه منها ملاذاً.
و قد نظر إلى واقع طلابنا المبتعثين، وشبابنا المغتربين في هذا الزمان بعض أهل العلم والفضل فلم يرَ خيراً من النكاح بنية الطلاق عوناً لهم في غربتهم، وتحصيناً لأنفسهم من الفتن.
فقد أفتى بصحة النكاح بنية الطلاق للمغترب الشيخ العلامة محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله فقال : ( ومما سألونا عنه : الغريب في بلد يريد التزوج فيه و نيته أنه إن أراد العود لوطنه ترك الزوجة طالقاً في محلها .. هل تزوجه مع نية الفراق بعد مدة يجعل نكاحه نكاح متعة فيكون باطلاً أم لا ؟
فكان جوابنا : إنَّه نكاح صحيح، ولايكون متعةً إلا بالتصريح بشرط الأجل عند عامة العلماء إلا الأوزاعي فأبطله، ونقل كلامه هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري ولم يتعقبه بشئ ، وعن مالك رحمه الله أنه قال : ليس هذا من الجميل و لا من أخلاق الناس ) [ انظر : رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، للعلامة الشنقيطي ، ص : 100 ] .
و أكثر من نهى عن هذا النكاح فقد نهى عنه سداً للذرائع المفضية إلى الفساد والتساهل المفضي إلى الإفراط في تتبع الشهوات ، والوقوع في الفتن ، لا لورود دليلٍ يحرِّمه، أو تيقن وقوع مفسدة لدرئها يَحظُرُه.
لذلك قال الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله في تحريم هذا الزواج [ في جوابه على السؤال رقم 1391 من أسئلة لقاء الباب المفتوح ] :
ثم إن هذا القول – أي : القول بالجواز - قد يستغله ضعفاء الإيمان لأغراض سيئة كما سمعنا أن بعض الناس صاروا يذهبون في العطلة أي في الإجازة من الدروس إلى بلاد أخرى ليتزوجوا فقط بنية الطلاق ، وحكي لي أن بعضهم يتزوج عدة زواجات في هذه الإجازة فقط ، فكأنهم ذهبوا ليقضوا وطرهم الذي يشبه أن يكون زنى والعياذ بالله .
ومن أجل هذا نرى أنه حتى لو قيل بالجواز فإنه لا ينبغي أن يفتح الباب لأنه صار ذريعة إلى ما ذكرت لك. أما رأيي في ذلك فإني أقول : عقد النكاح من حيث هو عقد صحيح ، لكن فيه غش وخداع ، فهو يحرم من هذه الناحية . والغش والخداع هو أن الزوجة ووليها لو علما بنية هذا الزوج ، وأن من نيته أن يستمتع بها ثم يطلقها ما زوَّجوه ، فيكون في هذا غش وخداع لهم . فإن بيَّن لهم أنه يريد أن تبقى معه مدة بقائه في هذا البلد ، واتفقوا على ذلك : صار نكاحه متعة .
لذلك أرى أنه حرام ، لكن لو أن أحداً تجرَّأ ففعل : فإن النكاح صحيح مع الإثم . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل ما ختم به كلامه رحمه الله، وهو قوله : ( فإن النكاح صحيح مع الإثم ) ، وبهذا يلتقي مع مذهب الجمهور رحمهم الله جميعاً، إذ قالوا بصحة النكاح بنية الطلاق، ولكن ذلك لا يبرئ ذمة المتزوج مما اقترف من الغش والتغرير والظلم المترتب على تصرفه.
و بهذا ننتهي إلى أن النكاح بنية الطلاق صحيح من حيث ترتب آثاره عليه، وفاعله آثم لما اقترفه من تغرير في حق زوجته، وما أنزله بها من ظلم، ولو لم يكن كذلك لعُدَّ فاعله زانياً والعياذ بالله، وهذا بعيد لم يقل به أحد.
هذا والله الهادي إلى سواء السبيل، وبالله التوفيق .
كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب
والله من وراء القصد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته