الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه آجمعين.. وبعد.
فهذه رسالة جمعت الكثيرَ من صفاتِ الإمام الشهيد حسن البنا ومواقفه.. وحرصه على إحياءِ رسالة الإسلام وإعداد الرجال الذين تربَّوا عليها ليحملوا الأمانة، ويبلغوا الحقَّ كاملاً، بالحكمةِ والموعظة الحسنة.
والحق أنَّ أجيالاً كثيرة، قد حيل بينها وبين أن تعرف حقيقة دعوة الإخوان المسلمين، وما قدَّمه الإمام البنا؛ ولذلك سنحاول في هذه الحلقات بيان الحقائق التي قدَّمها الإمام البنا، لهذا الدين العظيم.
لقد طرح منهجًا هو من صميم الإسلام، ولذلك نجده يقول "ومن الحق أيها الإخوان أن نذكر أننا ندعو بدعوة الله، وهي أسمى الدعوات، نُنادي بفكرةِ الإسلام، وهي أقوم الفكر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع".
وحين نتحدث عن الإمام البنا- رحمه الله تعالى- نتحدث عن واحدٍ من الرجال الذين تتجلى سيرتهم في جهادهم وتاريخهم في إيمانهم وثباتهم، عن واحدٍ من الرجالِ الأعلام، الذين لا يرون أنفسهم إلا جنودًا للحق، في ميدان التضحية والفداء والجهاد، يؤدون واجبهم ويبذلون أقصى طاقاتهم في سبيل ما آمنوا به واعتقدوا أنه الحق.
وفي هذه الآفاق كانت مسيرة الإمام البنا- رحمه الله تعالى-، كان روحًا وريحانًا، وقدوةً عمليةً واقعية، في دنيا الدعوات، إن كثيرًا من المفاهيم لا يتم ظهورها إلا إذا تحققت في صورة واقعية محسوسة يراها الناس في الحياة، ودعوة الإسلام العظيم، ترتبط دائمًا بالقدوة في الأفعال والأعمال، ودعوة الإسلام التي جددها الإمام البنا، ليست طقوسًا مُبهمة، ولا ترانيم غامضة، بل هي رسالة أضوأ من البدر، هدفها السمو والارتقاء بالإنسان، روحيًّا وعقليًّا وخلقيًّا، واقتصاديًّا وسياسيًّا، والمسلم الصادق هو الترجمة العملية لها، لقد عمل الإمام طوال حياته على إبطال تقديس الأشخاص، فاختفى النفاق في صفوف الذين رباهم على الحق وساد عنصر التقدير لمَن يستحق، وبقى معنى الاحترام لأهل الفضل والسبق، وتأكدت قيمة العمل الصالح وحدها، قيمة العمل للدين والدنيا، والدنيا والآخرة، فطريق الآخرة هو طريق الدنيا، لا اختلاف ولا افتراق.
من الناس من يعيش لنفسه وحدها، لا يُشغل إلا بها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا انقضى عمره، وخرج من الدنيا لم يشعر به أحد، وعلى عكس هذا تمامًا من الناس من يعيش لأمته، واهبًا لها حياته، واضعًا نصرتها وعزتها كل أحلامه وآماله، باذلاً في سبيل كرامتها كل ما يملك، وهؤلاء لا تكون مصيبة موتهم في أهلهم وذويهم، لكنها تكون خسارةً للأمة كلها، فعليهم تذرف الدموع، وتبكي القلوب.
وإمامنا من هذا النوع الكريم نحسبه كذلك ولا نُزكي على الله أحدًا، إنه مربي الأمة، ومعلم الأجيال وإمام العصر، ومجدد دعوة الإسلام في القرن العشرين، لقد انتشرت دعوة الإسلام على أيدي تلاميذه في كل أنحاء الدنيا، وكلها حلقات متواصلة، ومتصلة تنظمها سلسلة واحدة هي الإسلام.
لقد كان الإمام البنا صاحب رسالة تحكمها عقيدة التوحيد، أخذت عليها زمام نفسه، وملكت عليه منافذ حسه، فعاش من أجلها، ومات في سبيلها، وكان يؤمن إيمانًا عميقًا بأنَّ الدين الإسلامي هو زورق نجاة العالم كله، وهو وحده الكفيل بإيجادِ الفرد المسلم الصادق، والأسرة المسلمة الواعية، والمجتمع المسلم الرائد، والدولة الإسلامية التي تسوس وتقود العالم إلى بر الأمان والأمن والسلام.
ولقد تعلمت الأجيال منه، أنَّ الجهاد في الإسلام ليس ألفاظًا مُنمَّقة، ولا خطبًا رنانة، ولا أحلامًا وردية، ولا أماني معسولة، بل هو عملٌ شاقٌ وصبر وتحمل، وإخلاص وتجرد وإعداد وتربية.
قال الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105)، والإسلام اليوم في أشد الحاجة إلى رجال عمليين، ينسون أنفسهم ومصالحهم ويحبون إسلامهم، ويفدون دينهم، ويقدمون طاعة الله على كل شيء، قال تعالى ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).
وعن الدين والسياسة، يقول: "فمن ظنَّ أن الدين أو بعبارة أدق لا يعرض للسياسة، أو أن السياسة ليست من مباحثه، فقد ظلم نفسه، وظلم علمه بهذا الإسلام، ولا أقول ظلم الإسلام، فإنَّ الإسلامَ شريعةُ الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، وجميل قول الإمام الغزالي رضي الله عنه "أعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارسَ له فضائع".
إنَّ سنةَ الله عز وجل اقتضت أن يبعث بين فترة وأخرى مَن يجدد للمسلمين أمر دينهم، ويُوقظ فيهم دواعي الجهاد ويرد عليهم ثقتهم بأنفسهم "إنَّ الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة مَن يجدد لها دينها" (رواه أبو داود عن أبي هريرة).
ونحسب أنَّ الإمامَ البنا في مقدمة هؤلاء الأعلام، ولقد استقر معنى التجديد عنده على مستوى آخر، هو التأسيس ومعناه "إعادة بناء الأمة من جديد والبدء بالأساس، ذلك أنه يجب التفريق- عند الدعاة إلى الإسلام اليوم وغدًا- بين حالة وأخرى، فحين يكون النقص في الفروع في بعض الجوانب يكون عمل المجدد هو الإصلاح والاستكمال، والترميم وتقويم المعوج، أما حين يكون النقص في الثوابت والأساسيات- وهذا ما حدث حين ألغيت الخلافة، وعطل المنهج وتفرقت الأمة- فقد لزم ووجب أن يكون التجديد لا ترميمًا فقط، ولا إصلاحًا جزئيًّا فحسب، بل بناءً وتكوينًا وتأسيسًا.
ومن أقوال الإمام رحمه الله، مبينًا الركائز التي يجب أن يقوم عليها البناء خاصةً في أوقات الشدائد: "الإخوان المسلمون اليوم وهم الأمة الجديدة القائمة على الحق، المهتدية بنور الله، الداعية إلى صراطه المستقيم، بين منحة ومحنة، وعليهم أن يشكروا الله أجزل الشكر على ما أولاهم من نعمته، وأغدق عليهم من فضله ومنته، وأن يصبروا أكمل الصبر على المحنة، مهما علا ضجيجها، وأرعد برقها، وعظم هولها، وأجلبت بخيلها ورجلها، وليثقوا بموعود الله تبارك وتعالى لسلفهم الصالحين من قبل حين قال لهم: ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران: 120).
ويقول رحمه الله، مبينًا أسباب النصر والهزيمة: ولقد كنت وما زلت أقول للإخوان في كل مناسبة، إنكم لن تُغلبوا أبدًا من قلةِ عددكم ولا من ضعفِ وسائلكم، ولا من كثرةِ خصومكم، ولا من تألب الأعداء عليكم، ولو تجمَّع أهل الأرض جميعًا، ما استطاعوا أن ينالوا منكم، إلا ما كتب الله عليكم، ولكنكم تغلبون أشد الغلب، وتفقدون كل ما يتصل بالنصرِ والظفرِ بسبب إذا فسدت قلوبكم، ولم يصلح الله أعمالكم، أو إذا تفرقت كلمتكم واختلفت آراؤكم، أما ما دمتم على قلبِ رجل واحد متجه إلى الله تبارك وتعالى، آخذٌ في سبيل طاعته سائر على نهج مرضاته، فلا تهنوا أبدًا، ولا تحزنوا أبدًا، وأنتم الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وتحت عنوان "لا يأس" يقول: "لا أتصور أنَّ مؤمنًا بالله، وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً مهما ادلهمَّت أمامه الخطوب واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووضعت فى طريقه العقبات، إن القرآن ليضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن بالضلال : ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ (الحجر: 56).
ثم يقول- رضي الله عنه-: "أقرب ما يكون هذا النصر إذا اشتدَّ الضيق وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف:110).
ويقول عن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي: "إن هذا الدين العالمي قد أسس على معنى من التسامح والسعة والصفح والغفران، تجعله أمنًا وسلامًا، وقسطًا ومعدلةً مع الذين لا يؤمنون به، ولا يدينون له، على صورةٍ لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، فهو يفرض على أتباعه أن يؤمنوا بكل نبي سبق وبكل كتابٍ نزل، وهو يثني على الأنبياء والكتب والحواريين والرسل والأمم التي سبقته، والمؤمنين ممن تقدموه، ويدعو المؤمنين به إلى أن ينهجوا نهجه ويأخذوا أخذهم، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ﴾ (الصف: 14).
ويتحدث رحمه الله حديثًا واضحًا عن المرأة ومكانتها في الإسلام، وتحت عنوان "التطبيق العملي" يقول: أما من ناحية التطبيق العملي يا أخي، فالرجل كائن، والمرأة كائن، وللرجل مهمته، وللمرأة مهمتها، ونحن نجد أنَّ الله تبارك وتعالى قد قرر في شأن تكوين الأسرة: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228)، ثم يقول: "ويحضرني هنا أيها الأحباب من طرائف سيدنا عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما-، أن نافعًا رآه يأخذ من ذقنه ما زاد على القبضة، فقال: "الله الله يا ابن عباس إنَّ الناس يضربون إليك أكباد الإبل من أطراف الجزيرة، يسألونك عن الدين والقرآن، وتفعل ذلك؟ فقال ابن عباس: ويحك يا نافع، إني أفعل ما يأمرني الله به، فأتزين لامرأتي، كما تتزين لي، فقال نافع: لتأتيني من كتاب الله، فقال له: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 228).
ثم يقول- رضي الله عنه-: "وتلخيصًا لما تناولنا" في القضية.. أيها الإخوان.. أقول إنَّ الإسلامَ جعل المرأة قرينة الرجل، في أصلها وفي وجودها، وفي حقوقها العامة، وأقرَّ الإسلام ما بينها وبين الرجل من رابطة، ثم وضع الحقوق العملية العامة، ووضع التشريعات الواجبة التنفيذ للمرأة، وعلى أساسٍ يحفظ كرامتها، ويُضفي عليها خصائصها النسوية الأنثوية، ثم أدبها الإسلام أكمل الأدب".
هذه جوانب مختصرة من توجيهات الإمام تبين عمق النظرة، ودقة الفهم، وهي مبادئ وضعها الإمام، ويجب أن نقرأ رسائله، لنعرف هذه الأسس جيدًا، ونفهم القواعد، التي استمدها من القرآن العظيم، والسنة المطهرة، وهي هي التي ربى وبنى عليها الرسول- صلى الله عليه وسلم- صحابته، ويجب أن تتعمق في النفوس وأن تشربها القلوب، فكلما ازدادت رسوخًا وثباتًا في قلوبنا، وحياتنا، كلما انكسرت عند أقدامنا موجات الأعاصير الهوج، والحروب الحاقدة والمدمرة، فالله أكبر وأعظم وأجل من مكر البشر وفورات العبيد الذي لا يملكون لأنفسهم شيئًا.
يقول عنه شقيقه الأستاذ عبدالرحمن البنا رحمه الله: "غاب عن الناس من خلقه، ما جعله بين نفسه وربه، يستره عن الناس، فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله، فهو في بيته- شهد الله- لا يفتر عن مصحفه، ولا يغيب عن قراءته، ولا يغفل عن ذكره، يتلو القرآن على الحُفَّاظ منا، فيسمع له، ويُلقي بالمصحف- إذا لم يجد حافظًا- إلى الصغيرِ فيراجع عليه ويملأ البيت بالقرآن، والتلاوة سابحًا في آياتِ غارقًا في ذكرياتٍ صاعدًا إلى سماواتٍ يعرف الطريقةَ التي كان يقرأ بها النبي- صلى الله عليه وسلم- فيقرأ بها، والمواقف التي يقف عندها فيقف عندها، وكانت تعرو جسمه رعدة وتأخذ نفسه روعة، فيتجهم لدى آياتِ الوعيد، ويشرق عند آياتِ البشرى والنعيم، خارجًا على الجو الذي يحيا فيه في معنى بعيد بعيد.
هذا بعض من تاريخ هذا الرجل العظيم وجهاده، وصبره وتجرده، وقد ختم الله له ذلك كله بالشهادة في سبيله، ما ركن يومًا إلى جواذبِ الدنيا، بل ترفَّع عنها، ولقد أوى إلى ربِّه، فهداه وأواه وهدى به، وحين نستعرض هذه الجوانب، نخجل من تقصيرنا، ونستحي من الله، الذي يرانا ويعلم سرائرنا، فيا ويح كل نفس خلت موازينها يوم القيامة، من جهاد وغبار في سبيل الله.
اللهم إنك تعلم ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، فأجبر ضعفنا واغفر ذنوبنا، وتقبَّل إمامنا واجزه عنا خيرَ الجزاء، اللهم ارحمه فإنه لم يترك لأحدٍ بعده معذرةً يعتذر بها، بين يديك، ولقد استقام الأمر، ووضح الطريق، وقامت الحجة، وقد بلَّغ الإمامُ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح للأمةِ وأقام الحجة، وعاد إليك يا أرحم الراحمين شهيدًا، له نور يسعى بين يديه بإذنك وفضلك وإحسانك، ولسان حاله يقول "وعجلت إليك رب لترضى".
وجزَى الله مَن قام بهذا الجهد الكريم النافع لجمع ما تفرَّق في بطونِ الكتب والمجلات في هذا السفر الذي احتوى هذه الصورة المضيئة عن الإمام، فهذا عمل طيب، ونحن نُقدِّر الرجال الأبرار، ولا نُقدِّسهم والفرق كبير بين الحالتين.