حقيقة التشيع
لقد نسب الخصوم كثير من الافتراءات والأكاذيب للشيعة عامة وللإثنا عشرية خاصة وهم بريؤون منها ، لذا رأينا بيان حقيقتهم وحقيقة ما يعتقدون به من واقع كتب علمائهم المعتمدين ، حتى يكون المسلم الواعي المثقف المتحرر من التعصب الأعمى والحقد والكراهية على بينة من أمره ، وخاصة في ظل تأكيدات خصوم الشيعة على أتباعهم بعدم قراءة كتب الشيعة لأن بها كثير من البدع والضلالات حسب ادعائهم .
وعلى الباحث عن الحقيقة والمنصف العادل في حكمه عن يطلع على ما يقوله الأطراف دون الاعتماد على أقوال طرف واحد دون الآخر .
بعد أن بينا قول الشيخ محمد جواد مغنية في أسباب معرفة التشيع ، ومعنى التشيع ، وأصل التشيع على النحو المبين في الحلقة السابقة ، نعرض هنا حديثه عما جرى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال ...
================
= الأصْــحـَابُ والـتـشــيـّع =
================
(( ذكر ابن أبي الحديد في - شرح النهج - والسيد محسن الأمين في الجزء الثاني من – الأعيان - وكرد علي في - خطط الشام - والسيد حيدر الآملي في - الكشكول فيما جرى على آل الرسول - ذكر هؤلاء وغيرهم أن جماعة من أصحاب رسول اللّه كانوا يدينون بالتشيع ، ويعتقدون أن النبي نص على علي باسمه ، وعيّنه خليفة على المسلمين من بعده ، وجعله أولى بالناس من أنفسهم ، ثم ذكروا أسماء هؤلاء الأصحاب .
ولا شيء أقرب إلى التصديق من هذا القول ، لأن مقياس الصدق لأقوال المؤرخين وغيرهم هو الواقع ، فإن كان ما يدل عليه وجب القبول ، وإلا وجب الرد .
وتشيع جماعة من الأصحاب لعلي أمر طبيعي ، وحقيقة يفرضها الواقع بعد أن كان النبي هو الباعث الأول لهذه العقيدة ، كما قدمنا . وليس من المعقول أن ينقض جميع الأصحاب عهد نبيهم ، ويخالفوا بكاملهم ما جاءهم به من البينات .
وأيضاً ليس من المعقول أن يتشيع جماعة من الأصحاب ، ثم لا يظهر أي أثر لتشيعهم ، بخاصة بعد أن صرفت الخلافة عن علي إلى غيره ، ومن هنا رأينا هؤلاء الأصحاب يؤلفون حزباً مناهضاً لبيعة أبي بكر وخلافته .
قال السيد محسن الأمين في القسم الأول من الجزء الثالث - لأعيان الشيعة - ص 308 وما بعدها طبعة 1960 <1>
انقسم الناس بعد وفاة النبي أحزاباً خمسة :
(1) حزب سعد بن عبادة رئيس الخزرج من الأنصار .
(2) حزب أبي بكر وعمر ، ومعهما جل المهاجرين .
(3) حزب علي ، ومعه بنو هاشم ، وقليل من المهاجرين ، وكثير من الأنصار الذين قالوا : لا نبايع إلا علياً ، كما جاء في تاريخ الطبري .
(4) حزب عثمان بن عفان من بني أمية ومن لف لفيفهم .
(5) حزب سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن من بني زهرة .
ومال قسم كبير من الأنصار مع حزب أبي بكر وعمر ، فقوي حزبهما ، واضطر عثمان ، وحزب ابن أبي وقاص أن يبايعوا أبا بكر ، وبقي حزب علي هو المعارض الوحيد ، وحاول أبو سفيان أن يستغل الموقف ، ويساوم أبا بكر ، فجاء إلى علي وقال :
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم --- ولا سـيما تيم بن مـرة أو عـدي
فمـا الأمـر إلا فيكـم وإليكـم --- وليـس لها إلا أبو حسـن علـي
أما واللّه لو شئتم يا بني هاشم لأملأنها عليهم خيلاً ورجال اً، فناداه علي ارجع يا أبا سفيان ، فواللّه ما تريد اللّه بما تقول ، وما زلت تكيد للإسلام وأهله .
ولما سمع أبو بكر تهويش أبي سفيان أسند بعض الوظائف لولده ، فرضي وسكت ، بل دعا للخليفة بالتوفيق والنجاح .
واجتمع 12 رجلاً من حزب علي ، وتشاوروا بينهم في إنزال أبي بكر عن منبر الرسول ، فقال قائل منهم : استشيروا علياً قبل أن تفعلوا ، ولما استشاروه قال : لو فعلتم لأثرتم حرباً ، ولأتى إليّ القوم وقالوا : بايع ، وإلا قتلناك .
لقد شعر حزب علي بالخيبة ، وانتاب رجاله هزة عنيفة ارتعشت منها قلوبهم وأعصابهم ، لصرف الحق عن أهله ، والاستهتار بالدين ، وأقوال سيد المرسلين ، وإذا نهاهم الإمام عن حمل السلاح ، وإعلان العصيان ، ومجابهة الحاكم وجهاً لوجه فإن هناك سبيلاً آخر لمناصرة الحق ، وهو الدعاية له ، والعمل على نشره في جميع الأوساط ، ومختلف الطبقات .
وهذا ما حصل بالفعل ، فكانوا - أينما حلوا - يوجهون الناس إلى علي ، ويحدثونهم عن فضائله ، ومكانته عند اللّه والرسول ، ويؤكدون حقه في الخلافة ، ويركزون دعايتهم هذه على كتاب اللّه وسنة نبيه ، وهما أشد وسائل الدعاية تأثيراً في نفوس المسلمين ، بل أن الدعاية مهما يكن نوعها لا تبلغ إلا عن طريق الدين ، لأنها كانت يومذاك أساس الحياة ، بخاصة الحكم والسلطان .
وقد انتشر الشيعة من الأصحاب في الأمصار على عهد الخلفاء الثلاثة ( أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ) وأكثرهم أو الكثير منهم تولى الإمارة والمناصب الحكومية في البلاد الإسلامية ، ونذكر طرفاً من أقوالهم في هذا الباب .
- كان سلمان الفارسي يحدث الناس ، ويقول : بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين ، والائتمام بعلي بن أبي طالب ، والموالاة له . وقال : إن عند علي علم المنايا والوصايا ، وفصل الخطاب . وقد قال له رسول اللّه : أنت وصييّ وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى ، أما واللّه لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ، ومن تحت أرجلكم .
- وفي الجزء السادس من البحار أن سلمان خطب إلى ابنته ، فرده عمر ، فقال له سلمان : أردت أن أعلم هل ذهبت الحمية الجاهلية من قلبك ، أم هي كما هي ؟
- وكان أبو ذر ينادي في الناس ، ويقول : عليكم بكتاب اللّه ، والشيخ علي ابن أبي طالب . وكان يدخل الكعبة ، ويتعلق بحلقة بابها ويقول : أنا جندب بن جنادة لمن عرفني ، وأنا أبو ذر لمن لم يعرفني ، إني سمعت رسول اللّه (ص) يقول : إنما مثل أهل بيتي في هذه الأمة مثل سفينة نوح في لجة البحر ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق . ألا هل بلغت ؟
- وكان أبو ذر يسمي علياً بأمير المؤمنين في عهد أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وكان يقف في موسم الحج ويقول : يا معشر الناس أنا صاحب رسول اللّه ، وسمعته يقول في هذا المكان ، وإلا صمت أذناي : علي بن أبي طالب الصديق الأكبر . فيا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو قدمتم من قدمه اللّه ورسوله ، وأخرتم من أخره اللّه ورسوله لما عال ولي اللّه ، ولا طاش سهم في سبيل اللّه ، ولا اختلفت الأمة بعد نبيها .
وقال : قال رسول اللّه لعلي : أنت أول من آمن بي ، وأول من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، وأنت أخي ووزيري ، وخير من أترك بعدي .
- وقال عمار بن ياسر : يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا عن أهل بيت نبيكم ؟.. تحولونه ههنا مرة ، وههنا مرة ، ما أنا آمن أن ينزعه اللّه منكم ، ويضعه في غيركم ، كما نزعتموه من أهله ، ووضعتموه في غير أهله .
- وحين بويع عثمان بن عفان دار نقاش بين المقداد بن الأسود ، وبين عبد الرحمن بن عوف .
قال المقداد : ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت .
قال عبد الرحمن : ما أنت وذاك ؟
قال المقداد : إني واللّه أحب هذا البيت لحب رسول اللّه ، وإني لأعجب لقريش ، وتطاولهم على الناس بفضل رسول اللّه ، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله .
قال عبد الرحمن : أما واللّه لقد أجهدت نفسي لكم .
قال المقداد : أما واللّه لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق ، وبه يعدلون ، أما واللّه لو كان لي على قريش أعوان لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد .
قال عبد الرحمن : إني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة .
قال المقداد : إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة . ولكن مَن اقحم الناس في الباطل ، وآثر الهوى على الحق فذاك صاحب الفتنة والفرقة . فتربد وجه عبد الرحمن ، وانصرف .
- وقال أبو هارون العبدي : كنت أرى رأي الخوارج ، حتى جلست إلى الصحابي أبي سعيد الخدري ، فسمعته يقول : اُمر الناس بخمس ، فعملوا بأربع ، وتركوا واحدة ، فقال رجل : ما هذه الأربع التي عملوا بها ؟ قال : الصلاة والزكاة والصوم والحج . فقلت : وما الواحدة التي تركوها ؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب <2> . ))
ويضيف الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه أنه ...
(( وذكرنا في كتاب - مع بطلة كربلاء - أن الزهراء (ع) هي أول من أعلن حق علي في الخلافة بعد أبيها ، أعلنت هذا الحق في خطبتها الشهيرة بالمسجد الجامع ، وقالت تخاطب أباها في قبره ، وتشكو إليه أمته :
قد كان بعدك أنبـاء وهنبثـة --- لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلهـا --- واختل قومك فاشهدهم ولا تغب<3>
قام هؤلاء الأصحاب وغيرهم ممن تشيع لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة بدور رئيسي في بث التشيع ، وغرس جذوره وبذوره في كل أرض وطأتها أقدامهم ، دعوا إلى التشيع على صعيد القرآن والحديث ، وبذكاء ومرونة وطول أناة ، وكانوا محل التعظيم والثقة عند الناس لمكانتهم من رسول اللّه ، ومن هنا تجاوبت معهم القلوب والعقول ، وكان لأقوالهم أثرها البالغ ، ونتائجها البعيدة .
وقد تعرض بعضهم للإهانة والشتم والتشريد والضرب ، كأبي ذر وعمار بن ياسر ، ومع ذلك استمروا في بث الدعوة بصبر وشجاعة ، ورحم اللّه عمارا ً، حيث يقول : واللّه لو ضربونا ، حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق ، وأنهم على باطل . ))
ثم يقول الشيخ محمد جواد مغنية ...
(( قرأت في كتاب - الإمام زيد - للشيخ أبي زهرة ص 107 طبعة أولى ، قوله " نشأ الشيعة ابتداء في مصر ، وكان ذلك في عهد عثمان ، إذ وجد الدعاة فيها أرضاً خصبة ، ثم عمت بعد ذلك أرض العراق " .
أرسل المؤلف هذا القول ، ولم يسنده إلى دليل ، على أهميته من الوجهة التاريخية ، فأخذت أبحث وأفتش ، فرأيت في - أعيان الشيعة - ج 42 ص 213 طبعة سنة 1958 "" أن عثمان بن عفان أرسل رجالاً يتحرون العمال ، ومنهم عمار ، أرسله إلى مصر ، فعادوا يمتدحون الولاة إلا عماراً استبطأه الناس ، حتى ظنوا أنه اغتيل ، فلم يفاجئهم إلا كتاب من عبد اللّه بن أبي السرح والي مصر يخبرهم أن عماراً قد استمال القوم بمصر ، وقد انقطعوا إليه ، فكان تصريح عمار بالحق سبب اعتداء غلمان عثمان عليه ، فضربوه ، حتى انفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه "" .
هكذا كان الصفوة الخلص من أصحاب الرسول أجهزة الدعاية للتشيع يوجد حيثما يوجدون ، وينبث حيثما يحلون ، وسلاحهم الوحيد كتاب اللّه وسنّة نبيه ، ابتدأ التشيع في مصر بسبب عمار ، وفي الشام وتوابعها كجبل عامل بسبب أبي ذر ، حيث نفاه عثمان إلى هناك ، وفي المدائن بسبب سلمان الفارسي ، وفي الحجاز بسبب هؤلاء وغيرهم كحذيفة اليمان ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأبي بن كعب ومن إليهم ، وقد ذكر السيد حيدر الآملي في كتاب - الكشكول فيما جرى على آل الرسول - أكثر من مائة صحابي كانوا يتشيعون لعلي بن أبي طالب ، ويحفظون الأحاديث التي سمعوها من النبي في الولاية ، وينشرونها في الأمصار الإسلامية .
وبهذا يتبين التحامل في قول من قال : إن سبب التشيع هو ابن سبأ والفرس ، وما إلى ذاك من الهراء والافتراء . ))
--------------------------------------------------------------------------------------------
الهامش :
======
1- يعتمد المؤلف هنا على تاريخ الطبري ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة ، وعلى ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي .
2- وبهذا اللفظ رويت أخبار كثيرة عن الإمامين الباقر والصادق، ذكرها الكليني في كتاب - أصول الكافي - .
3- في البيت الأخير أقواء ، وهو كثير في كلام العرب .
|