فتوى الشيخ فيصل في حكم اشتراك مسلمي أمريكا بالحرب
وصلتني فتوى المستشار في المحكمة الشرعية بلبنان، الشيخ فيصل مولوي، في حكم اشتراك المسلم الأمريكي في الحرب ضد أفغانستان، أنقلها كما وصلت:
بسم الله الرحمن الرحيم
هل تجوز مشاركة العسكريين المسلمين في الجيش الأمريكي
في المهمّات العسكرية في أفغانستان وسائر بلاد العالم؟
السؤال:
السيد جابلن محمد عبد الرشيد، أقدم المرشدين الدينيين المسلمين في الجيش الأمريكي، يسأل حول مدى جواز مشاركة العسكريين المسلمين في الجيش الأمريكي في المهمّات القتالية، وسائر ما تتطلّبه في أفغانستان وغيرها من بلاد المسلمين.
ويحدّد في سؤاله أهداف هذه العمليّات بما يلي:
1- الانتقام من الذين "يظن أنهم شاركوا" في تدبير وتمويل العمليات الانتحارية التي نُفّذت في الحادي عشر من سبتمبر ضدّ أهداف مدنية وعسكرية في كلّ من نيويورك وواشنطن (وشرح ما اشتملت عليه هذه العلميات).
2- القضاء على العناصر التي لجأت إلى الأراضي الأفغانية وغيرها، وإخافة سائر الحكومات التي تتساهل في إيواء أمثال هؤلاء، وتمكّنهم، أو تعطيهم فرص التمكن، من التدريب على فنون القتال، والانطلاق نحو أهدافها في العالم.
3- إعادة الهيبة والاحترام للولايات المتحدة باعتبارها قطباً عالمياً منفرداً.
ويختتم استفتاءه بقوله: إنّ العسكريين المسلمين في الجيش الأمريكي بفروعه الثلاثة لا يقلّون عن خمسة عشر ألفاً، وإنّهم قد لا يُتاح لهم، إذا لم يقبلوا المشاركة في العمليات القتالية المذكور، إلاّ الاستقالة وفيها ما فيها في الظروف الراهنة، ويسأل أخيراً: هل يجوز لمن يستطيع منهم أن يطلب تحويله إلى الخدمات الأخرى غير القتال المباشر؟
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد ..
فقد اطلعت على فتوى الدكتور محمد سليم العوّا التي ذكر فيها أنّ الدكتور يوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري والدكتور محمد هيثم الخياط والأستاذ فهمي هويدي، توافقوا عليها. واطلعت على شرح الدكتور القرضاوي لسر موافقته على هذه الفتوى. كما اطلعت على فتوى الدكتور أحمد الريسوني أستاذ الشريعة في المغرب، وعلى فتوى الدكتور علي جمعة الأستاذ بجامعة الأزهر. وكنت قد أجبت على مثل هذا السؤال في (فتاوى مباشرة) على صفحة (إسلام أون لاين). وقد ازددت اقتناعاً بتلك الفتوى بعد اطلاعي على آراء الإخوة الكرام، وبناءً على طلب (قسم الفتاوى) أقدّم هذا التأصيل لتلك الفتوى في ضوء السؤال المفصّل الذي لم أكن قد اطلعت عليه، فأقول:
أولاً: الجندي الأمريكي المسلم له صفتان:
- فهو مواطن أمريكي، وعليه بالتالي أن يلتزم بالقوانين الأمريكية، وبالدفاع عن وطنه حين يتعرّض لعدوان خارجي.
- وهو إنسان مسلم، عليه أن يلتزم بالأحكام الشرعية طاعة لله ولرسوله.
والولايات المتحدة الأمريكية تخوض الآن معركة شرسة ضدّ الإرهاب، وقد تكون معركة حاسمة بالنسبة لاستمرارها في قيادة النظام العالمي الجديد.
ثانياً: فما هي الأحكام الشرعية المتعلّقة بهذه الحالة بالنسبة للجندي الأمريكي المسلم؟
1 - هل يجوز للمسلم من حيث الأصل أن يكون جندياً في جيش غير إسلامي؟ والجواب: إنّ هذا الأمر متعلّق بكونه مواطناً في بلد غير إسلامي. فإذا أُبيحت هذه المواطنة، تكون التزاماتها مباحة بالتبعية. ومن حيث الواقع فإنّ ثلث المسلمين اليوم يعيشون أقلّيات في بلاد غير إسلامية، وأكثرهم من أهل البلاد الأصليين. بالإضافة إلى أنّ أكثر بلاد المسلمين لا تلتزم بتطبيق الأحكام الشرعية، وليس فيها أيّ بلد يستقبل المسلمين من بلد آخر إذا أرادوا الهجرة إليه، كما أنّ بقاء المسلمين في أوطانهم الأصلية يجعلهم أقدر على إيصال الدعوة إلى أبناء وطنهم، وقد اختار الله تعالى جميع رسله من أبناء قومهم لهذا السبب. قالى تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ..}. لذلك توافق أكثر العلماء المعاصرين على جواز (أن يكون المسلم مواطناً في بلد غير إسلامي). وبالتالي أصبح وجوده في جيش ذلك البلد نتيجة طبيعية.
2 - لقد حرصت الدعوة الإسلامية المعاصرة على الدعوة إلى اندماج المسلمين – حين يكونون أقلّية – في المجتمعات التي يعيشون فيها، باعتبار أنّ المسلم إيجابي بطبعه في أيّ مجتمع يعيش فيه، وأنّ المسلمين باندماجهم الإيجابي مع مجتمعاتهم يكونون أكثر قدرة على نشر دعوتهم، طالما أنّ المجتمعات المعاصرة تتيح حرّية نشر الدعوة الإسلامية من حيث الأصل باعتبار ذلك يتعلّق بحرّية العقيدة، التي تُعتبر في جميع بلاد العالم المعاصر من حقوق الإنسان الأساسية، وتنصّ دساتير أكثر الدول على حمايتها.
ولا يمكن لهذا الاندماج أن يحقّق نتيجته في نشر الدعوة، إلاّ إذا حافظ المسلم على شخصيّته الإسلامية المتميّزة في المعالم الأساسية، عقيدة وفكراً وسلوكاً، ثمّ يحاول ذلك في المسائل الفرعية. ومن رحمة الله بالمسلم أنّه لا يكلّفه ما لا يستطيع، وهذا موضع اتفاق بين جميع العلماء والمذاهب لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا..} {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ..} وغيرها من الآيات والأحاديث الكثيرة.
3 - ومن الأحكام الشرعية الأساسية التي لا يجوز للمسلم أن يتجاوزها، أنّه يجوز له القتال مع جيشه الوطني حين يكون مدافعاً عن أرضه وحقوقه. وأكثر الجيوش اليوم تنحصر مهمّتها في الدفاع عن أوطانها. والمسلم يدافع عن الحقّ وينافح عن المظلوم ولو كان من غير دينه أو جنسه، ومن باب أولى أن يدافع عن حقوق وطنه الذي يعيش فيه، ومواطنيه الذين يعيش معهم. وفي سيرة رسول الله e في مكّة، وفي سيرته مع اليهود في المدينة أوضح دليل على ذلك.
أمّا إذا خرج الجيش من نطاق الدفاع عن الوطن وحقوق أهله، إلى نطاق الاعتداء على أوطان الآخرين وحقوقهم. فإنّ المسلم لا يجوز له أن يشارك في هذا الاعتداء. وهذا يشمل ما لو كان المعتدى عليه مسلماً أو غير مسلم. قال تعالى: {.. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..}. وسياق الآية يُفهم منه التعاون مع غير المسلمين على ما يُعتبر في ديننا من البرّ والتقوى، ويقبله غير المسلمين لاعتبارات أخرى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان الذي يُعتبر كذلك في ديننا، إذا قبل غير المسلمين هذا الاعتبار.
ثالثاً: توصيف الأوضاع الحالية لقتال الجيش الأمريكي في أفغانستان وبيان الرأي الشرعي:
لقد لخّص السؤال أهداف عمليّات الجيش الأمريكي في أفغانستان وهي:
- الانتقام من الذين "يظن أنهم شاركوا" في أحداث 11 أيلول.
- القضاء على العناصر التي لجأت إلى أفغانستان، وتخويف سائر الحكومات من إيوائهم وإقامة معسكرات التدريب لهم، ومساعدتهم على الانطلاق نحو أهدافهم في العالم.
- إعادة هيبة الولايات المتحدة باعتبارها القطب العالمي المنفرد.
وبناءً على هذه التوضيحات نقول:
1 - إنّ قتال الجيش الأمريكي في أفغانستان ليس دفاعاً عن الوطن الأمريكي ولكنّه اعتداء على وطن آخر هو أفغانستان. إنّ الدفاع لا يكون إلاّ ضدّ المعتدين. والشعب الأفغاني ليس معتدياً، ولم يثبت حتّى عند الإدارة الأمريكية من هو المعتدي حتّى يُعاقب. نحن نعتقد أنّ التفجيرات في نيويورك اعتداء على الأبرياء، ومن الواجب معاقبة الفاعلين. لكن هجوم الجيش الأمريكي على أفغانستان هو أيضاً اعتداء على الأبرياء ولا يجوز المشاركة فيه. إنّ حجّة ضرب قواعد الإرهابيين ومن يساعدهم لا تبرّر ضرب الأبرياء، كما أنّ حجّة انحياز أمريكا وظلمها ومشاركتها في الاعتداء لا تبرّر ضرب المدنيين في نيويورك. فالعدوان مرفوض بغضّ النظر عن الشخص المعتدي. والمسلم في الجيش الأمريكي لا يجوز له أن يشارك في العدوان ولو على غير المسلمين. ولو هاجم الجيش الأمريكي الصين أو اليابان أو أوروبا لكان من واجب الجندي المسلم الأمريكي أن لا يشارك في هذا العدوان. فالقضية ليست دينية بالمعنى الطائفي، إنّما هي قضية أنّ الجندي المسلم يقاتل دفاعاً عن الحقوق ولا يعتدي على أيّ إنسان مهما كان دينه لقوله تعالى: {..وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
2 - ويتأكّد عدم جواز مشاركة المسلم مع جيش بلاده فيما إذا كان اعتداء هذا الجيش على بلد مسلم، فقد وردت كثير من النصوص الصريحة التي يرتجف لها قلب المسلم مثل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه). ومن الواضح أنّ هذا التهديد يشمل المسلم في جميع أحواله. وبالتالي نقول بكلّ وضوح: إنّ قتال الجندي المسلم تحت لواء الجيش الأمريكي ضدّ إخوانه المسلمين في أفغانستان، وهم معتدى عليهم، لا يجوز شرعاً.
3 - قد يكون من الصعب على الجندي المسلم الالتزام بهذا الواجب الشرعي. لكن من الضروري أن يكون واضحاً عنده، وأن يجري توضيحه أمام المجتمع الأمريكي والحكومة الأمريكية. لقد قامت مظاهرات أمام البيت الأبيض تستنكر الحرب في أفغانستان، وارتفعت أصوات مهمّة ضدّ هذه العمليّات باعتبار أنّها تطال الأبرياء، ولا تقضي على الإرهاب، بل قد تزيده بسبب الأحقاد الناتجة عن الحرب. وليس صعباً على المسلمين في أمريكا وقد أدانوا جميعهم تفيجرات 11 أيلول، أن لا يوافقوا على غزو أفغانستان. والظاهر من السؤال أنّ الجندي المسلم إذا لم يقبل المشاركة في القتال في أفغانستان فسيكون مضطرّاً للاستقالة. إذا كانت هذه هي النتيجة، فإنّي أقول: يجب على الجندي المسلم الأمريكي أن يستقيل ولا يجوز له المشاركة في قتال ظالم ضدّ إخوانه المسلمين في أفغانستان.
أمّا إذا ترتّب على هذا الموقف نتائج أخرى ضارّة لا يمكن تحمّلها، بالنسبة له شخصياً، أو للجالية الإسلامية ككلّ، فإنّ الضرورات تبيح المحظورات وعليه الموازنة بين الأمرين، واختيار أقلّهما ضرراً، وهو وحده الذي يتحمّل مسؤولية اختياره.
4 - ولاء المسلم لدينه والتزامه بأحكام شريعته هو الأساس. وليس معنى ذلك أنّ ولاءه لوطنه في الدرجة الثانية، بل هو جزء من ولائه لدينه. لكن ليس معنى الولاء للوطن موالاة الحكومة في كلّ ما تفعل. وإلاّ اتهمت المعارضة السياسية بعدم الولاء للوطن. وهذا يتنافى مع التعدّدية السياسية ومع مبادئ الديمقراطية نفسها. من أجل ذلك يُسمح للجندي الأمريكي إذا استشعر الحرج من القتال أن لا يقاتل، ولا يُعتبر هذا جرحاً لولائه الوطني. والقضية المطروحة اليوم ليست استنكار تفجيرات الحادي عشر من أيلول، لكنّها تتعلّق بكيفية مواجهة الإرهاب، وهذه مسألة قد تختلف فيها الرؤى، ومن حقّ المسلمين أن يعبّروا عن رؤيتهم في أنّ الإرهاب لا يُحارَب إلاّ بإقرار العدالة في العالم، والاعتراف بالتعدّدية في الحضارات والثقافات، والانتهاء عن كلّ أنواع الظلم والتسلّط.
إنّ ولاء المسلم لوطنه الإسلامي نفسه لا يبيح له تنفيذ أمر الحاكم إذا كان معصية، بل يوجب عليه مخالفته لأنّه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وعندما تقع من المسلم مثل هذه المخالفة لا تقدح في ولائه لوطنه الإسلامي.
إنّ الإسلام يسعى إلى سيادة القيم الأخلاقية والإنسانية التي شرعها الله في جميع المجتمعات، ويجعل كلّ مسلم حارساً لهذه القيم سواء كان يعيش في مجتمع إسلامي أو في مجتمع آخر، ويفرض عليه أن يخالف الحاكم – ولو كان مسلماً – حين يتجاوز هذه القيم.
المستشار الشيخ فيصل مولوي
بيروت في 1 شعبان 1422
الموافق 18 تشرين الأول 2001
__________________
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك/22]
|