في المقاصد والمنهج المقاصدي
مناقشة ابن الجوزي للصوفية.. والشاطبي ونظريته
مجلة المجتمع الكويتية-العدد1493
http://www.almujtamaa-mag.com/Detail...wsItemID=65349
تستوقفنا مناقشة ابن الجوزي الحادة للصوفية في كتابه الشهير "تلبيس إبليس" لأنها بالفعل تعبير رائع عن رؤية هذا الفقيه الكبير للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية من خلال نقد الرؤية السائدة بين متصوفة زمانه التي شطبت قسماً كبيراً من هذه المقاصد، مما أدى إلى خلل خطير في المجتمع الإسلامي آنذاك. وهذه أمثلة من السلوك والمفاهيم الصوفية التي انتقدها على أرضية من الفهم السليم للمقاصد الشرعية:
1 احتقار العلم والعلماء:
قال بعض الصوفية "المقصود العمل" مهملاً بهذا مقصد الشريعة الكبير في الحث على طلب العلم وإزالة الجهل قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9) ولهذا التيار من الصوفية تبريرات لترك العلم الشرعي كقولهم إنه "علم الظاهر" أما هم فمشغولون بعلم الباطن! وقالوا إنهم أخذوا علمهم عن الحي الذي لا يموت، بينما العلماء يأخذون علمهم ميتاً عن ميت! ولجأ كثير منهم إلى إتلاف ما كان عندهم من كتب، وفي الرد على هذا التيار يقول ابن الجوزي: "العلم نور وإبليس يحسّن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة ولا ظلمة كظلمة الجهل، ولما خاف إبليس أن يعاود هؤلاء مطالعة الكتب فربما استدلوا بذلك على مكايده حسّن لهم دفن الكتب وإتلافها، وهذا فعل قبيح محظور وجهل بالمقصود بالكتب وبيان هذا أن أصل العلوم القرآن والسنة فلما علم الشرع أن حفظهما يصعب أمر بكتابة المصحف وكتابة الحديث".
وأوضح ابن الجوزي في هذا السياق أن العلم سبيل لمعرفة أحكام الله "من أكبر المعاندة لله عز وجل الصد عن سبيل الله وأوضح سبيل الله العلم لأنه دليل على الله وبيان لأحكام الله وشرعه وإيضاح لما يحبه ويكرهه فالمنع منه معاداة لله وشرعه"(1).
2 ترك العمل وتفضيل البطالة:
ما أكثر الآيات والأحاديث التي تحض على العمل وتفضله على الكسل والتبطّل! قال عز وجل فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله (الجمعة: 10) وقال عليه الصلاة والسلام: "لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها الله وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". ونعى ابن الجوزي على متصوفة عصره استباحتهم للتسول ومفهومهم الخاطئ للتوكل. وينقل عن أحدهم أنه سئل عن التوكل فأعطى آخر درهم كان عنده ثم قال: "استحييت من الله أن أجيبك وعندي شيء"
وكان بعضهم يهب كل أمواله ثم ينصرف إلى التسول. ويوضح ابن الجوزي فهم الإسلام للتوكل الذي لا يتنافى مع ترك العمل والأخذ بالأسباب وهكذا فهمه الصحابة، ويقول: "لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله عز وجل لا إخراج صور المال ما قال هؤلاء هذا الكلام، ولكن قلّ فهمهم. وقد كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قال مثل هذا أحد منهم. وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة، فمن أين أطعم عيالي؟. وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائله من التوكل" (2).
3 فهمهم الخاطئ لموقف الشريعة من المال:
تركيز الصوفية على مبدأ الزهد جعلهم يعتقدون أن المال شر لا خير فيه، وأن الشريعة مقصدها الأساس في موضوع المال محاربته والحث على عدم اقتنائه وتضييع الموجود منه بأي طريقة كانت حتى ولو كانت رميه في النهر!
وفي مناقشة ابن الجوزي الطويلة معهم لا ينفك يعيد أن الشريعة حثت على طلب المال من وجوهه المشروعة وتنميته بصورة مشروعة أيضاً وهو يرد على قول المحاسبي "إن الله عز وجل نهى عباده عن جمع المال وإن رسول الله ص نهى أمته عن جمع المال" فيقول: "وقوله: ترك المال الحلال أفضل من جمعه ليس كذلك، بل متى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء. ويضرب لذلك أمثلة من حياة الأنبياء والصالحين فقد كان لإبراهيم عليه السلام زرع ومال وكذلك لشعيب وكان سعيد بن المسيب يقول: لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه".(3)
4 الإعراض عن الزواج وعن الزينة ومباهج الحياة المشروعة:
من المعروف في الشريعة أن الزواج من السنن المستحبة المندوب إليها لقوله ص: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". وقال (ص) وقد أخبر عن نفر من الصحابة أراد أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام والثاني أن يصوم فلا يفطر والثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج : "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
ولا شك في أن الإسلام جاء بالحنيفية السمحة التي لا رهبانية فيها، فامتناع الصوفية عن الزواج مناقضة لهذا المقصد العظيم من مقاصد الشريعة. يقول الصنعاني رحمه الله في "سبل السلام" معلقاً على هذا الحديث: "وهو دليل على أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانهماك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها، وإن هذه الملة المحمدية مبنية شرعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير"(4).
أما الصوفية في زمان ابن الجوزي فقال أحدهم: "إذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا" فقال ابن الجوزي في الرد عليه: "وهذا كله مخالف للشرع وكيف لا يطلب الحديث والملائكة تضع أجنحتها لطلب العلم! وكيف لا يطلب المعاش وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أموت من سعي على رجلي أطلب كفاف وجهي أحب إليّ من أن أموت غازياً في سبيل الله؟ وكيف لا يتزوج وصاحب الشرع يقول: "تناكحوا تناسلوا"؟ فما أرى هذه الأوضاع إلا على خلاف الشرع" (5).
وكما حرم هؤلاء الصوفية على أنفسهم الزواج حرموا طيبات أحلّها الله لهم واختاروا لأنفسهم المظهر المزري وألزموا أنفسهم بما لا يلزم من لبس المرقّع بلا ضرورة، قال أبو الفرج: "وإنما أكره لبس الفوط المرقعات لأربعة أوجه أحدها أنه ليس من لبس السلف وإنما كان السلف يرقعون ضرورة. والثاني أنه يتضمن ادعاء الفقر وقد أمر الإنسان أن يظهر نعمة الله عليه. والثالث أنه إظهار للزهد وقد أمرنا بستره. والرابع أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة ومن تشبه بقوم فهو منهم!"(6).
وأخذ أبو الفرج عليهم أنهم بهذا خالفوا السنة وتمسكوا بأمر شكلي وخالفوا مقصد الشرع في التواضع وعدم المراءاة وإخفاء الزهد وعدم إظهاره.