08-03-2006, 02:39 PM
|
من كبار الكتّاب
|
|
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
|
|
الحصانة والجرائم الجسيمة!!!
يتمتع قادة الدول، حتى في حال ارتكابهم لانتهاكات جماعية جسيمة لحقوق الإنسان، بحصانة غربية بالمعنى التقليدي تحول دون إجراء محاكمة جنائية لهم على الأقل أثناء ممارستهم لمهامهم.
وهذه الحصانة موجودة في الدستور والقانون الأساسي على الصعيد الوطني وفي العرف الدولي، وهي محصلة الجمع بين فكرة سيادة الدولة/الأمة وفكرة المزج بين هذه السيادة وبين من يمثلها على رأس الدولة، حيث يصبح التعرض للرئيس بهذا المعنى تعرضا لسيادة دولته.
ولكن السؤال المطروح على المجتمع البشري اليوم، وقد أصبحت السيادة مفهوما نسبيا بكل المعاني، هو ما معنى أن تبقى حصانة رؤساء الدول؟ وهل هذه الحصانة مطلقة؟ هل هي مقدسة؟ وهل يمكن قبول مبدأ الحصانة لإغماض العين في القرن الـ21 عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم العدوان؟
من الضروري لمناقشة موضوع الحصانة الفردية التذكير بأن هذه الحصانة تعبير عن حالة استثنائية، وبالتالي لم يكن السبب الأول لها الطبيعة المطلقة للسلطات في الأزمنة القديمة، بقدر ما كانت ابنة وضع غير عادي يستلزم استثناء قانونيا أكثر مما هي امتياز شخصي.
هذه الحالة تعود بنا بعيدا في الذاكرة البشرية حيث كان حامل الرسائل بين الحكومات والدول بالعرف يمتلك الحماية ولو كانت الرسالة التي بحوزته تتضمن إعلان حرب.
وبهذا المعنى فقط يمكن القول إن الحصانة في المجتمع البشري قبل الحضارة الغربية كانت عالمية الطابع. أما مفهوم حصانة رئيس الدولة -ملكا كان أو أميرا أو رئيسا- فلم تكن موضوع إجماع عالمي قديم.
"
طموحنا أن تجد أصوات المطالبين بإلغاء الحصانة الرئاسية في كل المدافعين عن المقومات الحضارية الكبرى وعن مبادئ العدالة في الإسلام وغيره، حليفا طبيعيا لهم
"
أصالة الموقف العربي الإسلامي
من المعروف أن الموقف في صدر الإسلام صارم من أي استثناء لمسؤول أو قريب مسؤول من مواجهة القضاء كغيره من الناس.
وإذا كان القرآن الكريم ينطلق من موقف أخلاقي عالمي سام أكثر منه إجابات قانونية محدودة الزمان والموضوع، فقد شهدت العقود الأربعة الأولى في حياة الدين الجديد عدة مواقف أساسية تنم عن رفض فكرة التمايز والحصانة القضائية من حيث المبدأ.
فقد جاء عند الإمام أحمد ومسلم والنسائي مأثورا عن الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده! لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
وأما عن غياب الحصانة حتى عن الأنبياء، فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته "ألا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد" أي يطلب القود وهو القصاص.
لقد طالب الخليفة أبو بكر الصديق المسلمين بتقويم الاعوجاج في سلوك الخليفة لا السكوت عنه، في حين اختصر الإمام علي بن أبي طالب في عهده إلى مالك الأشتر النخعي إقامة القضاء بين الناس بجملة جامعة "الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم والأخذ للضعيف من القوي وإقامة حدود الله".
غياب أي نوع من الحصانة أو القدسية للحاكم في الإسلام بلغت أوجها في الانتفاضة على الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان وهو على المنبر ثم حصار بيته ثم الانقضاض الجماعي عليه.
إن ما يهمنا من هذا التناول التاريخي السريع التذكير بأن مفهوم التقدم نسبي جدا، والمطالبة بالحصانة لمجرد التمتع بمنصب سلطة هي من نقائص الأعراف القانونية الغربية التي أصبحت بقوة التأثير وإعادة الاستهلاك من قبل دول لا يملك حكامها حتى حق التعبير عن سيادة الدولة أو تمثيلها.. أصبحت بفضل هذا وذاك عالمية الطابع. كما أن نمو اتجاه مقاوم مختلف سيأخذ حقه عالميا في العقود إن لم نقل السنوات القادمة.
وإذا كانت منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية تعتبر سلطة الحصانة حصنا لتعسف السلطة، وتطالب في حال وجودها لدى النائب أو الصحفي أو الناشط الحقوقي، بالتزام أخلاقي وقانوني منه بأن لا يسيء استعمال ما يحميه أثناء ممارسة مهامه، فهي لا تقبل الحماية من العقاب في الجرائم الجسيمة لأي متمتع بحصانة مهما كان نوعها. ومن هنا كان الدور المتميز الضروري للعالمين العربي والإسلامي في معركة رفع الحصانة.
وطموحنا بأن تجد أصوات المطالبين بإلغاء الحصانة الرئاسية، في كل المدافعين عن المقومات الحضارية الكبرى في الإسلام وعن مبادئ العدالة المتساوية في التاوية وغيرهم من المنادين بنصرة الضعفاء ومناهضة عنجهية القوة، حليفا طبيعيا لهم.
"
هناك عرف دولي يمنح رؤساء الدول حصانة أثناء قيامهم بمهامهم، ولكن الدولة الحديثة لم تكتف به بل وسعته ليشمل رئاسة الوزراء ووزارات سيادية في عدة بلدان
"
الحصانة في الثقافة الغربية
حتى اليوم لا توجد اتفاقية دولية لحصانة الدول، وهناك فقط اتفاقية صادرة عن مجلس أوروبا صدق عليها عدد قليل من الدول الأوروبية ويحق لغيرها من الدول التصديق عليها، وهي اتفاقية 16 مايو/أيار 1972.
في عام 1991 أحالت لجنة القانون الدولي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع اتفاقية حول الحصانة، وحتى اليوم لم يتم صدور أي قرار بهذا الخصوص لعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق، ولكن العرف الدولي يبقى بقيمة القانون الملزم حتى في غياب اتفاقية دولية تحدد معالمه.
هناك عرف دولي يمنح رؤساء الدول حصانة أثناء قيامهم بمهامهم، وهو ملزم كأي قانون، ولكن الدولة الحديثة لم تكتف بهذا المستوى من الحماية بل إنها وسعت الأمر ليشمل رئاسة الوزراء ووزارات سيادية في عدة بلدان.
والعالم يذكر كيف رفضت محكمة العدل الدولية في القرار الذي اتخذته في القضية المرفوعة من الكونغو ضد بلجيكا يوم 14 فبراير/شباط 2002 رفع الحصانة عن وزير الخارجية الكونغولي لأن هناك عرفا دوليا يحمي القنصل العام والسفير.
كان منطق المحكمة يقول إنه ما دامت هناك حصانة لهؤلاء فلا تجوز محاكمة أو ملاحقة من قام بتعيين القنصل العام والسفير.
وللتذكير فقد رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الحقوقية في نوفمبر/تشرين الثاني 1998 لمحاكمة رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية لوران كابيلا أثناء زيارته لتلك الدولتين.
على صعيد الدساتير والقوانين الأساسية الوطنية، لا حاجة للاستشهاد بأكثر من النظام الأساسي لدولة إسرائيل الذي يعطي المثل الأسوأ لإطلاق الحصانة حيث جاء فيه:
"أ- لا يحاكم رئيس الدولة أمام أية محكمة عادية أو خاصة تتعلق بأمر ذي صلة بوظائفه وصلاحياته، بحيث تكون حصانته مطلقة.
ب- يحق لرئيس الدولة الامتناع عن الإدلاء بأي شهادة تتعلق بعمله كرئيس للدولة.
ج- تبقى حصانة رئيس الدولة سارية المفعول حتى بعد انتهاء مدة رئاسته".
نحو عهد جديد
في 16 أكتوبر/تشرين الأول 1998 كان لوصول أوغستو بينوشيه إلى لندن لإجراء عملية جراحية لفتق صغير أن زعزعت ما قام عليه مفهوم الحصانة في أوروبا، فقد أوقف البوليس دكتاتور تشيلي السابق بالاعتماد على مذكرة توقيف دولية أصدرها قاضيان إسبانيان بتهمة الإبادة الجماعية والتعذيب بحق أشخاص يحملون الجنسية الإسبانية.
بعد عشرة أيام طلب مكتب الشرطة السويسرية الاتحادي بدوره تمديد التوقيف الاحترازي بحقه بتهمة خطف وتعذيب وقتل مواطن سويسري، ثم تم تقديم ثماني شكاوى من لاجئين تشيليين أمام القضاء السويدي تبعتها شكاوى في بريطانيا وفرنسا.
بذلك بدأ مفهوم حصانة رئيس الدولة يهتز، والنقاش في الأوساط الحقوقية والقانونية يفتح على مصراعيه، إلا أن الدولة المسماة بالحديثة قامت لمنع سقوط مبدأ حصانة الرئيس.
ويمكن القول إنه بالمعنى الآني خسرت المنظمات الحقوقية والقضاة معركة محاكمة بينوشيه خارج الأراضي التشيلية، إلا أننا ونحن نكتب هذه الأسطر كسب شعب تشيلي المعركة مرتين، ليس فقط بانتخاب ابنة أحد ضحايا الدكتاتورية، ولكن عبر قرار قضائي صدر بين جولتي الانتخابات الرئاسية وبالتحديد يوم 11 يناير/كانون الثاني 2006، حيث رفعت محكمة الاستئناف التشيلية بـ17 صوتا مقابل ستة أصوات، الحصانة عن دكتاتور تشيلي السابق ليحاكم وهو في التسعين من العمر في قضية تتعلق بجريمتي قتل خارج القضاء عام 1973.
وتبنت المحكمة الدستورية العليا في إسبانيا مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي الذي سبق أن تبنته بلدان أوروبية أخرى. بل في الولايات المتحدة نفسها ثمة هجمة مضادة للمحافظين الجدد تحاول وقف التدهور القضائي والحقوقي.
نذكر دائما أن الإنجازات القانونية الكبيرة تأتي في عصر التحركات الكبرى للشعوب كما تصدر عن القادة الكبار، أما التراجع فيما يحققه الناس من تقدم فهو ابن الحقب الرديئة وقياداتها الضحلة.
"
مفهوم حصانة رئيس الدولة بدأ يهتز، والنقاش في الأوساط الحقوقية والقانونية فتح على مصراعيه، إلا أن الدولة الحديثة قامت لمنع سقوط مبدأ حصانة الرئيس
"
رغم أنها لا تشكل أنموذجا للعدالة كمحكمة عسكرية استثنائية نصبها الغالبون في الحرب العالمية الثانية، فقد كان من مبادئ القانون الدولي التي أقرتها المحكمة المبدأ الثالث الذي ينص على أن "الشخص الذي ارتكب فعلا يشكل جريمة بموجب القانون الدولي والذي يعمل بصفته رئيس دولة أو موظفا حكوميا، مسؤول بموجب القانون الدولي".
|