نقله ابنه إلى المستشفى من دون أن يعرف أنه والده
نبيل سنو نجا من الموت ولكن...
جهينة خالدية
هدى ونبيل (مصطفى جمال الدين)
تمد يدها بروية لتصل الى كفه المغطى بالشرشف الأبيض. تنتظر ثواني معدودة، من دون أن تتلقى أي دليل يشير الى إحساسه بها.
<أنا هدى..> تقترب منه وتكررها <أنا هدى.. زعلان مني ما عم تحكيني؟>. يأتي جواب نبيل سنو، بضغط خفيف على يد زوجته. هذا كل ما تتلقاه أم جلال من زوجها اليوم، بعد 13 يوما على إصابته أثناء قصف جسر الناعمة في تاسع أيام الحرب في 21 تموز الماضي.
لا أحرف تجد لنفسها مكانا بين شفتيه. لا حركة تتسلل عبر يديه. لا نظرة محددة وواضحة تخترق تشتت بصره. لا التفاتة ولا بسمة. صمت تام. يخضع نبيل اليوم لعلاج طويل في مستشفى الزهراء الجامعي، بعد تلقيه إصابة مباشرة في الدماغ غرق على أثرها في غيبوبة لمدة ثلاثة أيام. لعملية نقله من موقع إصابته قصة لا تقل ألما.
بمجرد بدء قصف الجسر الذي يبعد أقل من مئة متر عن منزله، جمع نبيل زوجته أولادهما محمد (21 عاما) وايهاب (15 عاما)، وهدى (8 أعوام)، للانتقال الى المبنى المجاور مشيا على الأقدام.
قصف الجسر وهم على الطريق، فاختفى نبيل من جانب هدى للحظات، نادته مرارا، لتلقى صوته بعد دقائق مطمئنا <أنا هنا.. لا تخافي>. يعود ليختفي. في تلك اللحظات التصقت الأم بأطفالها محمد وايهاب وهدى وهربت بهم إلى ملجأ المبنى المجاور.
جلال، بكر هدى ونبيل، (23 عاما) يعمل مع الدفاع المدني. نقلت سيارة إسعاف بلدية الناعمة، الى تلك التي يقودها هو، <حالة خطرة> لنقلها الى احد مستشفيات بيروت.
كل ما رأه جلال كان رأسا مفتوحا مغطى بكنزة تعصر دما. انطلق فورا الى مستشفى بيروت الحكومي الذي رفض الجريح، بحسب جلال ،<لأن المستشفى غير مكتمل التجهيز بعد>.
من هناك الى مستشفى الزهراء. من الاسعاف الى الطوارئ مباشرة، كلمات قليلة من جلال للأطباء، <الرجل انتشل من تحت الجسر على اعتبار أنه استشهد>.
عندها فقط نظر جلال إلى المصاب: إنه والده! نظر ليتأكد أكثر، الى حذائه، الى ثيابه ثم عاد بعينيه الى الوجه المضرج بالدماء.. عندها أدرك أنه لم يعد يريد أن يعرف شيئا.
يقول انه يتذكر كل تفاصيل تلك اللحظات، ولكن لا يمكنه وصفها أو التعبير عنها بأي كلمات.
الوالدة تشرح أن موظفي الطوارئ يرددون قصة جلال الذي جن جنونه عندما عرف أن الجريح المجهول الهوية الذي نقله، ما هو إلا والده.
لم يعلم محمد، الأخ الأصغر بإصابة والده مباشرة، علم فقط أنه بعد القصف تم نقل مصاب بحال خطرة إلى المستشفى، وأنه ربما يكون قد توفي.
اتصل جلال بأخيه عند الواحدة صباحا، لينبئه أن أباهما مصاب. ووقعت أصعب المهام على عاتق محمد: إعلام الوالدة. المهمة التي لم ينجح في إتمامها وحيدا، فأجلّها حتى السادسة صباحا، لتسانده فيها جارتهم.
تلازم هدى زوجها، وهي حائرة في أمرها، ترزح تحت عبء ثقيل، حزنها على وضع زوجها، وخوفها من عدم شفائه بشكل تام.
هدى تعاني من ارتفاع ضغط الدم، وتنتظر غرفة شاغرة في المستشفى لتعالج من ورم رجليها ولتنشيط عضلات قلبها المتعبة.
في خضم ذلك كله، تحاول الاهتمام بأطفالها، لا سيما هبة الصغيرة، التي تنتظرها عند خالتها في عائشة بكار لتطعمها بيديها <ماما، ضميني>، تقول الصغيرة لأمها كلما رأتها.
يشرح د. دانيال عباس، الاختصاصي في جراحة الدماغ والعمود الفقري في مستشفى الزهراء، أن نبيل تلقى إصابة مباشرة في الدماغ، مما أدى الى إتلاف نصف الدماغ الأيسر بشكل تام، ومما سيؤدي لاحقا الى شلل نصفي دائم في الجهة اليمنى للجسد، وربما مشاكل بالنطق لأن مركز النطق مصاب أيضا.
كان الهم الأول بحسب د. عباس هو إنقاذ حياة المصاب، الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد، لا سيما أن العظمة اليسرى للدماغ كانت مفقودة، وجزءا من الدماغ خارج الجمجمة، وكان هناك نزيف داخلي وخارجي وشظايا بالدماغ أيضا.
الكثير من الدعاء. هذا كل ما تملك هدى اليوم، وكثير من الصبر. ولكنها تحمل نداء لكل من يستطيع المساعدة لنقله خارج لبنان للعلاج.. <أنتظر الصحافة والاعلام لأطلق عبرهما ندائي الوحيد..>.
http://www.assafir.com/iso/oldissues...local/285.html