الهروب الى القدر(الفصل الثاني)
الفصل الثاني :-
حقاً .. قد عرف أهل القبيلة أن يختاروا لناهد ذلك الاسم المناسب ، فكانت اسماً على مسمى، فكلما كانت تكبر كلما زادت بهجة و جمالاً و بهاء .
سرعان ما كبرت الفتاة و أصبح عمرها يؤهلها للزواج ، تسارع الشبان لخطبتها ، لكنها كانت مدللة ، و لها حرية رأي ، ولا يستطيع أحد إرغامها على بالقبول بما لا تريد ..
فرفضتهم جميعاً ؛ و ذلك لأنها لم تشعر تجاه أحد منهم بعاطفة مميزة .
وفي أحد الأيام و بينما كانت الفتاة تملأ جرار الماء من النهر ، كان قد اقترب شاباً يبلغ من العمر حوالي الثانية و العشرين عاماً من النهر ، فأخذ يتأملها و يتأمل جمالها من بعيد و هي تملأ الجرار بالماء ، و يسمع صوتها و هي تغني ، فأحس بانجذاب إليها لم يستطع معرفة سببه أو تفسيره ..
و بعدها اقترب منها و تنحنح ، ففزعت جميلة ، و حاولت الهرب ، إلا أن جميع محاولاتها قد باءت بالفشل ، فالشاب أحكم قبضته على ذراعها ، و أخبرها بأنه لن يتركها قبل أن يتعرف عليها ، فسألها : ما اسمك أيتها الجميلة البهية الطلعة ؟
فاحمر وجهها و أجابت : أنا لا أقول اسمي للغرباء ، فهذا من شيم الفتاة المحترمة .
فرد عليها : اعلمي أنني لن أتركك قبل أن تُعرفي عن نفسك و عن أهلك !
فلم تجد جميلة مفراً إلا أن تخبره بأن اسمها جميلة ، و أنها من قبيلة الشيخ مكرم .
فقال لها : اسم على مسمى و مؤصل النسب .
فخجلت و حاولت الهرب ، إلا أنه قال لها : ألا تودين التعرف علي ؟
فأجابت : هذا ليس مهماً ..
فقال : بلى هذا مهم ، أنا اسمي أحمد ، و أريد أن أخبرك بأنك سارقة كبيرة !
فدهشت الفتاة و قالت : أنا !!!!
فرد عليها و أجابها : نعم أنت ، و لكنك سارقة من نوع آخر ، و أستطيع أن أقول عنك أنك سارقة شريفة ؛ لأنك سرقت قلبي ، و اختطفت مشاعري من أول نظرة ، وقعت عيني عليك ، و أخبرك أني سأقابل أهلك و أخطبك ومن ثم سأحضر أمي ..
الفتى قال ذلك و الفتاة وقفت متصلبة في مكانها لا تعرف ماذا ستفعل ، رغم ذلك استطاعت أن تفلت من قبضته هذه المرة و الهرب منه .. فلم يستطع إيقافها لسرعة تلك اللحظة الحاسمة ..
انطلقت جميلة تعدو و تسابق الريح إلى أن وصلت إلى منزلها ..
و عندما دخلت سألتها أمها التي ربتها عن سبب اضطرابها ، و قالت لها : ماذا حدث لك يا ابنتي ؟ و ما هو سبب اضطرابك ؟
فأجابت : إنني أشعر بصداع بسيط فقط ، و سأحاول الخلود للنوم قليلاً ؛ لعلني أستعيد نشاطي مجدداً .
فقالت لها أمها : حسناً ، اذهبي لتستريحي يا ابنتي ……
و بعدها جلست جميلة عند الزاوية المخصصة لها في الخيمة ، و راحت تفكر في الذي حدث معها، و تعاود سرد الأحداث في مخيلتها ، و تبحث عن تفسير لذلك ، و عن سبب انجذابها لذلك الشاب الغريب ، الذي سلبها عقلها و كيانها ..
و في مساء اليوم نفسه جاء الشاب إلى منزلهم ،و استأذن بالدخول ، و عرف عن نفسه ، و عن نيته في طلب يد جميلة ، و أخبرهم أنه بمجرد أخذ موافقتهم على طلبه سيعود إلى مدينته كي يحضر أمه لخطبتها رسمياً .
تعجب الشيخ من طلبه و قال له : من أين لك تعرف جميلة ما دمت غريباً عن هذه المدينة؟
فتلعثم الشاب بالإجابة و خاف أن يظن الشيخ به و بجميلة سوءاً ، فيرفض أن يزوجه إياها ، و لكنه حاول لملمة كلماته و رد على الشيخ و قال له : لا تنسى أيها الشيخ الكريم أن ابنتك هي أجمل بنات القبيلة ، و جميع الشباب يتمنوها لحسن أخلاقها و لجمالها الأخاذ و حسنها، و عندما وصلت تحدثت مع أصدقائي هنا فأخبروني أنك شيخ القبيلة ، و من بين الحديث عرفت أن لك ابنة فاضلة ، يحترمها الجميع ، الصغير قبل الكبير ، و من كثرة ما سمعت عنها تمنيت خطبتها ، و التشرف بهذا النسب الأصيل ..
فهز الشيخ برأسه ؛ استحساناً لكلامه و قال له الشيخ : زين ، هذه نعم الأصول و التربية ، و لكنك تعرف أن من الأصول أيضاً أن آخذ رأي جميلة ، و أن نقوم بالسؤال عنك و عن أهلك ، فأرجوك أن تمهلنا أسبوعاً ، و من ثم تعود لأخذ الرد منا .
فقال له الشاب : كما تريد يا عماه ، خذ ما تشاء من الوقت ، و سأعود في الوقت المحدد لآخذ الرد منكم إن شاء الله . ثم استأذن الشاب بالانصراف و انصرف .
بعدما خرج الشاب أحست جميلة أن قلبها قد خرج معه ، و أخذت تشيعه بنظراتها ، فلاحظ والدها ذلك ، و ربت على كتفها ، و قال لها : إنه ظريف ، أليس كذلك ؟
فردت عليه بتجاهل : من ؟
فقال لها والدها : من سيكون غير أحمد ؟ أتعلمين قد جاء لخطبتك مني ، فهل توافقين عليه؟
فخجلت هذه المرة جميلة و لم تتفوه بكلمة واحدة .
فنظر إليها والدها بحنان و قال لها : السكوت علامة الرضا .
فهزت برأسها بخجل ، و حاولت الانصراف من أمام والدها ، و لكنها لم تنجح بذلك ، لأن أمها أمسكت بيدها ، و من ثم احتضنتها ، و قالت لها : و أخيراً سأراك عروساً يا ابنتي الحبيبة ..
كانت الفرحة لا تسع أهلها ، و هم لا يصدقون أن تلك الطفلة الصغيرة التائهة قد كبرت الآن و ستتزوج …
قطع الأب ذلك الصمت و نادى شباب العائلة ، و أمرهم أن يشدوا الرحال ، ليسألوا عن أحمد و عن أهله و فصله و أصله .. و فعلاً ذهب الشباب لينفذوا مهمتهم .
أحس أحمد تلك الأيام كدهر طويل ، فقد سهر الليالي و أخذ يتساءل هل ستطول هذه المهلة؟
و هل سيوافق الشيخ على تزويجه ابنته ؟ تساؤلات عديدة جالت في خاطره .. إلى أن جاء ذلك اليوم الموعود ، فأرسل الشيخ بطلبه ، بعدما عاد له الشباب بالأخبار الطيبة عنه و عن أهله .
سرعان ما لبى أحمد نداء الشيخ و حضر فاستقبله الشيخ أطيب استقبال ، و دعاه للجلوس إلى جانبه.
جلس أحمد إلى جانب الشيخ و هو مرتعب ؛لأنه أحس أن تلك هي اللحظة الحاسمة في تاريخه، و هي التي ستحدد مصيره ..
لاحظ الشيخ بوادر القلق على وجهه ، فسارع بالقول له : مالك شارد الذهن يا صهري ؟
ما أن سمع أحمد تلك الكلمة حتى أصيب بالذهول ، و لم يصدق نفسه ، و بقي أحمد صامتاً ، فكرر عليه الشيخ سؤاله ، فتأكد أحمد أنه لا يحلم ، وأيقن أن طلبه قد قوبل بالموافقة ، فأخذ يقبل الشيخ من الفرحة ، حتى قال له الشيخ : كفى .. كفاك تقبيلاً ، لا تدعني أغير رأيي .
فقال له أحمد : لا . لن أزعجك ثانية ..
فقال الشيخ في نفسه : كم يتمتع هؤلاء الشباب بالحماس …
قاطع أحمد تفكيره و قال له : سأذهب الآن إلى بلدتي ، لأحضر أمي ، و لتبارك زواجي من جميلة ..
فقال له الشيخ : توكل و على بركة الله يا بني ..
و بسرعة امتطى احمد جواده ، و انطلق إلى بلدته على ظهر جواده وكأنه البيجاز الطائر*.
و بعد يومين أحضر أحمد أمه ، و المهر و المصاريف اللازمة لزفافه ، و أوصى صديقه خالد بأن يلحق به بعد ثلاث أيام و يعد الموكب الذي ستنقل به العروس إلى بيت الزوجية ..
في القبيلة بدأت التجهيزات للزفاف الموعود ، و في ليلة الحناء أعد حمام العروس ، و لكن كانت هناك مفاجأة لم يتوقعها أحد ، و ذلك عندما رأت أم العريس العلامة التي كانت على كتف الفتاة ، فأخذتها الدهشة ، و تذكرت أنها شاهدت نفس العلامة على كتف ناهد الأيمن، و من هول الصدمة أغمي على الأم ، فحملوها إلى ركن من الخيمة ،و التف الجميع حولها ، و بينما كانت غائبة عن الوعي كانت تتمتم بكلام غير واضح ، و كأنها كانت تقول :" ناهد .. ناهد .. ناهد .."
و لما استيقظت مباشرة سألت عن ناهد و قالت : أين ناهد ؟
فدهش الجميع و قالوا : ناهد .. من ناهد ..؟
فقالت لهم : أظن أنها جميلة .. أرجوكم أخبروني أليست هي ناهد ابنتنا التائهة ؟ أنا متأكدة من ذلك ، لقد شاهدت العلامة التي على كتفها ، لقد كانت ناهد تملك نفس العلامة .. أرجوكم أخبروني من هي؟؟؟ و ما هو أصلها ؟؟ أهي ابنتكم الحقيقية أم لا ؟؟!!
أطرق الشيخ رأسه و قال : نعم . لقد عثرنا على جميلة و هي طفلة و فعلاً قد كان اسمها ناهد ، و لكنا غيرنا لها اسمها ؛لأنه غريب علينا ، و لم نسمع يوماً به ، و أنت تعلمين يا أم أحمد أنها كانت أصغر من أن تعرف أين هم أهلها ، أو تستطيع أن تدلنا عليهم ..
كان أحمد يسمع ذلك الشيء الغريب و هو مذهول لا يعرف ماذا يقول .. و أخذ يقول في نفسه لا يعقل أن تكون جميلة هي أختي ناهد.. و هي المخلوقة الوحيدة التي أحببتها بصدق على هذه البسيطة ..
و لكن للأسف كانت هذه هي الحقيقة المرة التي واجهت الجميع .. و لا أحد في الكون يستطيع تغيير القدر أو النصيب ..
و كانت مشيئة القدر أن يمنح ناهد القدرة لتقبل ذلك ، بل بالعكس استطاعت ناهد الآن أن تفسر ذلك الحب الذي كان يربطها بأحمد ..
أما أحمد المسكين فقد بات لا يصدق نفسه ، و لا يتقبل ذلك الواقع المرير ، و كان كثيراً ما يهيم على وجهه في أراضي القبيلة ، و كانت قدماه تسوقانه إلى ذلك النهر ، حيث التقى ناهد أول مرة ، و تمنى لو أن تلك اللحظة تطول إلى بقية عمره .. و لكن ما باليد حيلة ..
و بينما كان أحمد جالساً هناك ، أقبل عليه صديقه خالد الذي كان يحمل معه ما أوصاه عليه أحمد ، فوجده حزيناً كئيباً ، فسأله عن ذلك التجهم و العبوس ؟ ، و لم يكن من بد إلا أن يخبر أحمد صديقه العزيز عن ذلك ؛ لعله يستطيع أن يخفف عنه شيئاً ..
حزن خالد أشد الحزن لما سمع الحقيقة ، و قال : حقاً إن الدنيا الغادرة ، لا تترك ابن آدم يحيا بسلام كما يريد ، و لكنها تتعمد أن تحرك أصابعها في الأقدار .. فهيا يا أحمد لنعود إلى القبيلة ، و إن شاء الله سيعوض صبرك خيراً..
و في اللحظة التي عادا فيها إلى القبيلة لمح خالد فتاة تحمل جرة ماء ، فأعجب بها ..
و عندما لمحت الفتاة أخاها أحمد قادماً ، أرادت أن تذهب إليه لأمر ما، ولكنها رأت أن معه شاباً فلم تشأ أن تكلمه ومعه شخص غريب ، فابتعدت عنهما ، لكن… هيهات ،فجمالها الفتان كان كشمس يشع نوراً مما لفت انتباه خالد ليشاهد أجمل ما رأت عينه ، وإذا بصورتها تنطبع في مخيلته على الفور ليرسلها، على بريد قلبه ولتستقر في أعماق أعماقه .
وبعدها التفت خالد إلى أحمد وهو شارد الذهن وأشار على ناهد المبتعدة عنه شيئا فشيئا ، وقال له : يا إلهي ، ما أجمل هذه الفتاة وما أبهاها !
فرد أحمد وفي عينيه كل الأسى ولماذا تظن أنني قد فقدت حبي لكل شيء ، أتظن من يرى ناهد يستطيع أن يتجاهل جمالها ورقتها؟!.
هنا أدرك خالد أن هذه الفتاة هي أخت أحمد ، صدم هو الآخر ؛ لأنه لم يكن يريد أن يقع في هذا المأزق مع صديقه أحمد ، فالفتاة التي سلبته عقله و أحاسيسه هي نفسها التي أحبها صديقه ، و حدث نفسه أن أحمد سيعتقد أن صديقه قد غدر به ، واختطف الفرصة السانحة ، لكي يسلبه من أحب ، فما عساه يستطيع أن يفعل ؟؟!!
تلك التساؤلات جميعا راودت فكر خالد ..
ولكن دعونا نرى ماذا راود فكر ناهد بالمقابل .. فبمجرد ما لمحت خالد ، والتقت عيناها بعيني ذلك الشاب الذي لفت انتباها بنظراته إليها، فأحست بشيء يجذبها إليه ، و هذا الشعور مغاير تماماً لما شعرت به تجاه أحمد ، و أحست بالفعل أن خالد هو الإنسان الوحيد الذي أحبته و تتمنى أن تتزوج به .. و لكن ما الذي ستفعله هي أيضاً ؟؟
أتبوح له بحبها و هي لم تعرف حقيقة شعوره تجاهها ؟؟! و في العادة لا تخبر الفتاة بحبها أولاً ، بل الرجل الذي يبدأ أولاً إذا كان بالفعل يحب ..
و لكن يا ترى هل سيستطيع ذلك الحب الرضيع كسر حواجز العادات و التقاليد ؟ بل ويتغذى منها ليغدو فتيا يستطيع تحطيم كل الموانع و العقبات ؟؟ أم سيكسر من أول مشكلة ستواجهه، و سيصبح في محط النسيان ؟؟!!
يتبع............
__________________
Samar
|