ثورة العشرين
هاني فحص
http://www.assafir.com/iso/today/opinion/39.html
3 آب 1914 أعلنت السلطة العثمانية في العراق النفير العام ولم يكن في العراق سوى اربع فرق عسكرية في الموصل وكركوك وبغداد والبصرة، غير حسنة التدريب.. لم يبق منها سوى فرقة البصرة حيث ارسلت البقية الى القفقاس والشام.
وبعد أيام بدأ التفكير بتحريك العشائر ضد الحاميات الانكليزية. ولم تجد القوات الانكليزية صعوبة في التغلغل لاحقا بسبب الانهيار السريع في القوات العثمانية، وبعد سنة اصبحوا (الانكليز) على مقربة من بغداد ولولا غرورهم لاحتلوها، وتعرضوا لهجوم تركي مضاد.
منذ اليوم الاول للنفير العام شرع الجنود العراقيون بالهروب من الجيش بمساعدة من الاهالي وملاحقة من الدولة التي أعدمت اول فار في بغداد (اليهودي يامين بن يعقوب).. وكانت الحكومة تشيع ان العراقيين يقبلون بشدة على التجنيد.
كان التفسخ سائدا في الدولة فأخذ يتفاقم بعد اعلان النفير وبدأت مصادرة الاموال من أيدي الناس فتفاقم كره الدولة خاصة العشائر...
في ت1 1915 ظهرت 3 طائرات في سماء بغداد مقدمة لاحتلالها، فأصاب احداها عطل فاعتقل الطيار وعرضت الطائرة على الجماهير التي اعتبرتها إيذانا من الله بالنصر الأكيد.. وبعد ايام قصفت طائرة اخرى (القلعة) اي ثكنة المدفعية وأماكن اخرى. واستمرت الطائرات الانكليزية بإغاراتها ومعاركها الجوية مع الطائرات الألمانية.. وسقطت بغداد في 11 آذار 1917. بدأت الحرب من البصرة، وكان طالب النقيب، اقوى شخصياتها مع أمير المحمرة خزعل ومبارك، على علاقة بالانكليز فوقف خزعل ومبارك معهم وامتنع النقيب واشترط ان يعلن الثورة بنفسه على العثمانيين من دون تدخل من الانكليز فرفضوا. تم احتلال الفاو بسهولة ليبدأ الانكليز بالتوجه الى البصرة ويقابلهم جيش ينام في العراء ويقضي ليالي من دون طعام الا ما يسرقه. ونفد العتاد على بعد ثلاثمئة متر من طلائع العدو الزاحفة نحو البصرة.
في البصرة
في 21ت2 1914تم اخلاء البصرة فتهافت الجمهور وأبناء العشائر الغريبة للنهب وإشعال الحرائق والقتل وانتهاك الحرمات. فتقدم عدد من وجهاء البصرة الى القائد الانكليزي طالبين احتلال البصرة، وفي 23ت2 وصل البصرة الجنرال باريت ومعه مساعده برسي كوكس الذي خطب مطمئنا، مركزا على محاربة الاتراك، موصيا جيشه بالمعاملة الحسنة، ورُفع العلم البريطاني على السراي الحكومي. واحتلت القرنة لحماية البصرة، ونصب الانكليز جسرا على دجلة فعبروا الى الغرب من النهر فاستسلم القائد التركي وأركانه... في البصرة انقسم السكان بين راض وساخط على الانكليز، فرضي التجار والمقاولون والعمال واصحاب الاملاك والبساتين، خاصة ان الانكليز يشترون بأغلى الأثمان، بينما كان الاتراك يصادرون! أما الوجهاء الذين يرحبون بأي حاكم فقد عجلوا بزيارة الجنرال الانكليزي مرحبين. وأرسلوا برقية الى الملك جورج الخامس شاكرين لادخالهم تحت رعايته. وتبعهم في ذلك رؤساء العشائر وأولهم (شيخ الزبير) ابراهيم الذي أخذ ينقل لكوكس اخبار القبائل.. والشيخ كباشي السعد صار نديما ومستشارا للمحتلين وكذلك الحاج عزار الذي كان قد جرح في معركة الكوت وهو في صفوف الجيش التركي وأسر وتشفع به الشيخ خزعل.
الساخطون على الانكليز هم رجال الدين وتوابعهم من الخاصة والعامة.
حركة الجهاد
قبيل احتلال البصرة وصلت الى العلماء في النجف وكربلاء والكاظمية برقية تقول: <<ثغر البصرة الكفار محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي بلاد الاسلام، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع>> وتليت البرقية في المساجد والاسواق وأرسلت بغداد الرسمية وفدا الى النجف اجتمع بالعلماء ورؤساء العشائر في المسجد الهندي، وخطب فيه السيد محمد سعيد الحبوبي قائد الثورة لاحقا والشيخ القائد عبد الكريم الجزائري والشيخ جواد الجواهري، وقالوا بوجوب الدفاع. وقال رئيس عشائر آل فتلة <<الأتراك اخواننا في الدين وواجب علينا مساعدتهم وطرد أعدائنا من بلادنا>> وغادر النجف عدد من المجتهدين مع أتباعهم نحو الجبهة، مارين محرضين بالمدن والعشائر، وفي السماوة تلقى السيد عبد الرزاق الحلو برقية من الوالي جاويد باشا من البصرة يقول فيها: <<أتوسل اليك برسول الله وآل البيت وفاطمة الزهراء ان تسرعوا في المجيء اليّ حيث ان البصرة مهددة ونحن في ضيق شديد>> وقرأ السيد البرقية فهتف <<الله اكبر... سمعنا وأطعنا>> وسار مع اصحابه نحو البصرة وأخذت وفود المجاهدين تتوافد الى السماوة من الشامية وابو صخير والنجف، ووصلت قوافل المجاهدين الاكراد برئاسة الشيخ (كاكا أحمد) وبعض من اعضاء العشائر بقيادة (هادي مقوطر) والشيخ بربوني السلمان تولى قيادة عشائر السماوة.
وفي 15ت2 1914 خرج المجتهد الشاعر الرقيق السيد محمد سعيد الحبوبي في ثلة من صحبه من النجف على دق الطبول، حاملا سيفا فوصل الناصرية اوائل العام 1915 وتجول بين العشائر شخصيا وتجول مبعوثوه (باقر الشبيبي وعلي الشرقي في العشائر البعيدة. وفي 19 شباط غادر الحبوبي سوق الشيوخ (الناصرية) وتبعته العشائر الى الشعيبة بالسفن الشراعية (قاعدة عسكرية قرب البصرة).
في الكاظمية
كان الشيخ مهدي الخالصي أشد الناس حماسا وتحميسا على الجهاد، وكتب كتابا في ذلك نشر في الصحف. وأوجب على المسلمين صرف اموالهم في الجهاد وفي اجتماع العلماء في الكاظمية عارض بعضهم الجهاد لعدم التكافؤ مع الانكليز ما يعني (القاء النفس في التهكلة) ولكن الاكثرية قالت بوجوب الجهاد دفاعا. وأبرق السيد مهدي الحيدري الى علماء النجف وكربلاء وسامراء انه عازم على الجهاد، وعقد لقاء في الصحن الكاظمي انتقلت منه مظاهرة الى بغداد حيث انضموا الى جماهير غفيرة في باب المعظم (محلة سنية صافية) وخطب فيهم الشيخ محمد الخالصي وعبد الرحمن الكيلاني ومحمد علي القسام (النجفي) وهتفوا للسلطان رشاد العثماني. وجاء محرم فاختلط الندب بأهازيج الجهاد.. وبذل الحاج داود ابو الثمن امواله في تجهيز المجاهدين، وفي العاشر من محرم وصل وفد علماء النجف الى بغداد لدعوة العشائر، وعلى رأسه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد اسماعيل اليزدي وطلاب حوزة من الفرس والعرب، وتوجه المجاهدون بقيادة الحيدري ولحق بهم العلماء وعلى رأسهم شيخ الشريعة الاصفهاني.. وبذل العلماء ما وصلهم من مال وأموالهم الخاصة على المجاهدين، في حين شرع الانكليز بالبحث عن معممين أيا كانوا ورؤساء عشائر ليقدموا لهم المال المضاد للجهاد.
بعد سقوط البصرة عزل جاويد باشا الذي كان يجمع الولاية والقيادة العسكرية وعين سليمان نظيف واليا وسليمان العسكري قائدا الذي كان مصرا على قذف الانكليز في البحر وغزو الهند!!! وفي 8ك2 1915 فتحت القوات الانكليزية نيران مدافعها على القوات التركية وقائدها سليمان العسكري والمجهاهدين من البر والبحر معا، فصمدوا في منطقة القرنة، وجرح العسكري، ولم ينجح الهجوم في زعزعة المجاهدين عن موقفهم في (الروطة) وعزا البعض صمود الروطة الى شجاعة السيد مهدي الحيدري الذي نصب خيامه قرب ساحة المعركة غير مبال بالقصف فصمد المجاهدون والجنود بصموده. وسقط للانكليز ما بين الف وألفين، بينما لم يخسر الاتراك والعراقيون الا اربعة عشر وخمسين جريحا. في المستشفى في بغداد استقبل سليمان العسكري موظفا كبيرا من رجال الدين فأنبه وضرب له مثلا بالسيد الحيدري الذي لم يقبل من اموال الدولة قرشا وتفرغ للجهاد... بينما الشيخ يرفل بنعمة مال الدولة في بغداد غير مكترث!!!
وكانت الاخبار قد انتشرت في بغداد بأن الهزيمة لحقت بالانكليز واسترجعت البصرة فعمت البهجة بغداد وهرع الناس في البصرة الى الزبير لاستقبال الجيش العثماني المنتصر! وفوجئوا بأن رأوا الجنود الاتراك اسرى.. وكرت السبحة من البصرة الى بغداد حيث اكتملت الهزيمة على عناصرها المركبة من الفساد والقصور والتقصير وإقامة بعض القوى على حالها من الاندفاع والاندفاع المضاد في اللحظة المؤاتية.. ولم تفلح اندفاعة العلماء المجاهدين وصحبهم في تأمين الضمان الكافي للنصر. فاستشهد بعضهم في طريق العودة (في النهر) وأحبط آخرون، وقرر معظمهم مواصلة الجهاد والممانعة بالطرق المتاحة فانعقد مؤتمر كربلاء عام 1922 بحضور علماء النجف والكاظمية لمواجهة العقوبات المحتملة والتي تمثلت تهميشا وإقصاء لكل القوى الفاعلة والفرات الاوسط جزاء بما ارتكبت من جهاد، في حين ان الذين أخلدوا الى الهدوء المترف بسبب العطايا العثمانية، ما لبثوا ان مالوا ليأخذوا نصيبهم مضاعفة من سلة الدولة الحديثة على المقاييس الانكليزية.. وبقيت روح الجهاد المبني على العلم والايمان ضمانة لأبناء الثورة وأحفادها حتى يرفعوا صوتهم بالاعتراض، وليستمروا في اعمار العراق وتنميته رغم حرمانهم من خيراته.