أمة الإسلام، ودرس آخر من دروس الهجرة النبوية يتجلى في أن عقيدة التوحيد هي الرابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القومية والتمايزات القبلية والعلاقات الحزبية، واستحقاق الأمة للتمجيد والتكريم مدين بولائها لعقيدتها وارتباطها بمبادئها، يقال ذلك أيها المسلمون وفي الأمة في أعقاب الزمن منهزمون كثر أمام تيارات إلحادية وافدة ومبادئ عصرية زائفة ترفع شعارات مصطنعة وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذلّ والصغار والمهانة والتبار والشقاء والبوار؛ فأهواء في الاعتقاد ومذاهب في السياسة ومشارب في الاجتماع والاقتصاد كانت نتيجتها التخلف المهين والتمزق المشين، وفي خضم هذا الواقع المزري يحق لنا أن نتساءل بحرقة وأسى: أين دروس الهجرة في التوحيد والوحدة؟ أين أخوة المهاجرين والأنصار مِن شعارات حقوق الإنسان المعاصرة والزائفة؟ وقولوا لي بربكم أي نظام راعى حقوق الإنسان وكرمه أحسن تكريم وكفل حقوقه كهذا الدين القويم؛ فلتصخ منظمات حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق وتطَّرِح الشائعات المغرضة عن الإسلام وأهل الإسلام وبلاد الإسلام إن أرادت توخي الصدق والموضوعية.
إن هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التضحية والبذل والفداء ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريته وحقوقه يجر ـ يا رعاكم الله ـ إلى تذكر أحوال إخواننا في العقيدة في بقاع شتى من العالم حيث حلت بهم مصائب وبلايا ونكبات ورزايا، سائلوا أرض النبوات ومهد الحضارات ومنطلق الرسالات وبلاد المعجزات، فلسطين المجاهدة ماذا تعاني من صلف يهوديٍ سافر ومن حقد صهيونيٍ أرعن، سائلوا الشيشان وكشمير وغيرها عن الأوضاع المأساوية علَ دروس الهجرة النبوية تحرِّك نخوة وتشحذ همة وتستنهض عزما وما ذلك على الله بعزيز.
أخوة الإيمان، وفي مجال تربية الشباب والمرأة وميدان البيت والأسرة يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ففي موقف عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما في خدمة ونصرة صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام، بأبي هو وأمي ما يجلِّ أثر الشباب في الدعوة ودورهم في الأمة ونصرة الدين والملة، أين هذا مما ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمة وثقافتها من تخدير الشباب بالشهوات وجعلهم فريسة لمهازل القنوات وشبكة المعلومات في الوقت الذي يعدُّون فيه للاطلاع بأغلى المهمات في الحفاظ على الدين والقيم، والثبات على الأخلاق والمبادئ أمام المتغيرات المتسارعة ودعاوَى العولمة المفضوحة.
أيها الأخوة والأخوات، وفي موقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ورضي الله عن آل أبي بكر وأرضاهم ما يجلِّ دور المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها؛ فأين هذا من دعاة المدنية المأفونة الذين اجلبوا على المرأة بخيلهم ورجلهم زاعمين زوراً وبهتانا أن تمسك المرأة بثوابتها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييد لحريتها وفقد لشخصيتها وبئس ما زعموا، فخرجت من البيت تبحث عن سعادة موهومة وتقدميّة مزعومة لتظنها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبة الشرف مدنسة العرض مغتصبة الحقوق عديمة الحياء موءودة الغيْرَة، وتلك صورة من صور إنسانيات العصر المزعومة وحريته المأفونة ومدنيته المدعاة، ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السراب الخادع والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.
أيها الأحبة في الله، وإشارة أخرى إلى أمر يتعلق بحدث الهجرة النبوية في قضية تعبر بجلاء عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية وتثبت للعالم بأسره استقلال هذه الأمة بمنهجها المتميز المستقى من عقيدتها وتأريخها وحضارتها إنها قضية إسلامية وسنة عُمرية أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنها التوقيت والتأريخ بالهجرة النبوية المباركة وكم لهذه القضية من مغزًى عظيم يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره والتقيد به، كيف وقد فتن بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم في تأريخهم وأعيادهم، أين عزة الإسلام؟ وأين هي شخصية المسلمين؟ هل ذابت في خضم مغريات الحياة؟ فإلى الذين تنكروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هويتهم وعملوا على إلغاء ذاكرة أمتهم، وتهافتوا تهافتا مذموما وانساقوا انسياقا محموما خلف خصومهم وذابوا وتميعوا أمام أعدائهم ننادي نداء المحبة والإشفاق: رويدكم؛ فنحن أمة ذات أمجاد وأصالة وتأريخ وحضارة ومنهج متميز منبثق من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فلا مساومة على شيء من عقيدتنا وثوابتنا وتأريخنا ولسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا بل إن غيرنا في الحقيقة بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنه التقلد والتبعية والمجاراة والانهزامية والتشبه الأعمى من بعض المسلمين هداهم الله وقد حذر صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن:" من تشبه بقوم فهو منهم" والله المستعان.
أيها الأخوة المسلمون، وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرم فيه درس بليغ على نصرة الله لأوليائه وانتقامه من أعدائه مهما تطاولوا إنه حدث قديم لكنه بمغزاه متجدد عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبي الله وكليمه موسى عليه السلام وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعبر والعظات والفكر للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان فمهما بلغ الكيد والأذى والظلم والتسلط فإن نصر الله قريب، ويالها من عبرة لكل عدو لله ولرسوله ممن مشى على درب فرعون أن الله منتقم من الطغاة الظالمين طال الزمن أو قصر فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النصر الخالدة، ألا فليقرّ أعينٌ بذلك أهل الحق ودعاته فالعاقبة للمتقين وليتنبه لذلك قبل فوات الأوان أهل الباطل ودعاته [ إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ] ، [ إن ربك لبالمرصاد ]، وإن في الحوادث لعبرا، وإن في التأريخ لخبرا، وإن في الآيات لنذرا، وإن في القصص والأخبار لمدكرا ومزدجرا، [ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ] .
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اجعل حاضرنا خيرا من ماضينا ومستقبلنا خيرا من حاضرنا إنك خير مسؤول وأكرم مأمول أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطايا والسيئات فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان توابا.
تحياتي