ماذا جنينا من الإنفجارات؟ بقلم: د. باسم خفاجي.
http://www.khafagi.com/editorial/bas...and-losses.htm
كتب المفكر الغربي غوبينو مقارناً بين الغربيين المتفوقين فطرياً كما يعتقد وبين أبناء الثقافات الشرقية المتخلفين فذكر في بحثه عن تفاوت العروق البشرية أن "الأوربيون المتحدرون عن الجنس الإغريقي يتسمون بميل فطري إلى ممارسة الحرية والعقل، بينما يتصف الشرقيون باستمرائهم العبودية وعجزهم عن الممارسة العقلية الصحيحة". ورغم أن أفكار غوبينو لم تعد أفكاراً ينادي بها الغرب علنا، إلا أنها وبلا شك قد شكلت الخلفية النفسية لساسة العالم الغربي في محاولاتهم المستمرة للسيطرة على الشرق. وجاءت الأحداث الأخيرة لتثبت بالدليل القاطع أن الشرق يرفض استمراء العبودية في عالم القرن الحادي والعشرين.
لقد ساد بين شعوب العالم في العقود الماضية الاعتقاد بأن الغرب فقط هو القادر على أن يحرك سكون العالم، وأنه وحده صاحب الحق في الانتقال بالبشرية من مرحلة حضارية إلى مرحلة أخرى إلى أن هزت انفجارات نيويورك وواشنطن هذا الاعتقاد مؤذنة بميلاد واقع جديد لعالمنا. واليوم وبعد شهر من تلك الأحداث، وقد بدأت أمريكا في حملتها المضادة لنا أن نتساءل عن الحساب الأولي للمكاسب والخسائر لأطراف الحادث.
وبغض النظر عن هوية من قام بتلك التفجيرات وموقف المرء منها سواء بالتأييد أو بالشجب والانتقاد، فهناك أمور تحققت من هذا العمل الذي يراه البعض بطولى ويراه البعض الآخر إرهابي. ورغم الاختلاف القائم في تقييم هوية وشرعية ومبررات تلك الأحداث، فليس هناك خلاف كبير حول تداعيات تلك الأحداث والنتائج التي أسفرت عنها حتى اليوم، وهذه قائمة مختصرة بتلك النتائج:
هل تأثرت أمريكا سلبا؟
• الخسائر المادية لأمريكا فاقت حتى اليوم 200 ألف مليون دولار (200 مليار).
• خسائر مدينة نيويورك وحدها من المتوقع أن تصل إلى أكثر من 105 ألف مليون دولار (105 مليار).
• خسائر سوق الأسهم والسندات الأمريكية من جراء الأحداث فاقت ألف ألف مليون دولار (1.3 تريليون حتى الآن).
• ظهور الانتقاد الحاد في الدوائر السياسية الداخلية الأمريكية للسياسة الخارجية التي تمر بمرحلة مراجعة حقيقية وخصوصاً فيما يتعلق بالثمن الذي يمكن أن يدفعه الشعب الأمريكي للعلاقة الحالية بين أمريكا وإسرائيل.
• الهيبة الأمريكية العسكرية اهتزت في نظر الجميع من أوربا إلى موزمبيق.
• اكتشفت أمريكا عجزها عن إيجاد تفاعل ومساندة حقيقية لها في العالم.
• الخسارة النفسية في أمريكا ضخمة من جراء سقوط الهيبة، واهتزاز الثقة في إمكانية الحياة الآمنة داخل الحدود الأمريكية التي كان يعتقد ذات يوم أنها محصنة ضد أي تهديد خارجي.
• ثبت بالدليل القاطع إمكانية زلزلة القدرة الأمريكية بعدد بسيط من الأشخاص وإمكانات محدودة. وسيعطي ذلك جرعة كبيرة من الثقة والقوة لأعداء أمريكا ومنافسيها.
• تزعزعت ثقة الشعب الأمريكي في الإعلام الذي طالما مجد أسطورة القطب الأوحد. كما أسفرت الأحداث عن ظهور ضحالة التحليل السياسي الإعلامي، ووضوح العداء والرؤية السلبية للإعلام الغربي تجاه لعالم الإسلامي.
• تساءل الشعب الأمريكي لأول مرة .. لماذا يكرهنا العالم إلى هذه الدرجة وهو سؤال يتكرر في كل وسائل الإعلام اليوم؟ وهل هذه بداية انتقام العالم من الهيمنة الأمريكية أم أن ما حدث هو مجرد حادث لن يتكرر؟
• أصبح من غير المستغرب أن يتحدث الشارع الأمريكي عن ثمن دعم إسرائيل والبقاء العسكري في الخليج، ولأول مرة يتساءل الشارع عن فائدة ذلك لأمريكا.
• انتقلت أمريكا خلال ساعات بعد الحادث إلى أزمة اقتصادية حقيقية (طرد أكثر من 200 ألف موظف من أعمالهم خلال أيام). ومن شأن الأزمة الاقتصادية أن تلهي أمريكا إلى حد بعيد في أمورها الداخلية.
• لأول مرة تتردد أمريكا وحلفاؤها في الرد المباشر والعشوائي الذي يتسبب عادة في قتل الأبرياء للانتقام. وهذا التردد المستمر أشعر العالم بالخوف الذي تمر به الإدارة الأمريكية من احتمال تجدد الضربات ضد مصالحها الداخلية والخارجية. ورغم بدء أمريكا في حملتها العسكرية إلا أن التردد ما زال يشوبها.
هل استفادت أمريكا إيجاباً من الحدث؟
رغم أن قائمة الفوائد الإيجابية للإدارة الأمريكية من هذا الحدث لا تزال محدودة للغاية، إلا أن أمريكا تنجح في كثير من الأحيان في سرعة الإفاقة من الصدمات، واستثمارها واستغلالها بأبشع الصور لتحقيق الأهداف الأمريكية في الهيمنة على العالم. ولذلك فهذه الجوانب الإيجابية قد لا تظهر سريعاً ولكن أهمها اليوم هو:
• تصوير العرب والمسلمين أنهم قتلة وإرهابيون، وتجيش العالم لِحرب ما يُسمى بالتطرف الإسلامي، والتركيز على القضاء على معاقل الجهاد.
• وَحدتْ الأحداثُ من الشعب الأمريكي ووضع السياسيون خلافاتهم الفكرية والحزبية جانباً في مواجهة الخطر الذي يُهدد استقرار الولايات المتحدة.
• أعطتْ الأحداثُ فرصةً لأمريكا لِلانتقام من كل الأعداء دفعة واحدة.
. بدأت أمريكا في استخدام الحدث لِضرب الفرقة بين المؤسسات الإسلامية العاملة على الساحة الأمريكية، ودفع تيار الإسلام الأمريكي المتميع لِلحديث باسم الجالية وتغيير قناعاتها لِتتماشى مع رغبات الإدارة السياسية.
. ارتفعت أسهم وشعبية الرئيس الأمريكي بشكل منقطع النظير.
• أظهرتْ الأحداثُ ضعف قيادات العالم العربي والإسلامي عن اتخاذ مواقف مستقلة تعبر عن الآراء الحقيقية للشعوب والجاليات التي تمثلها تلك القيادات، وتسعى الإدارة الأمريكية إلى استغلال ذلك لِضرب مصالح العالم العربي والإسلامي.
هل استفاد العالم العربي والإسلامي حتى اليوم؟
رغم تباين الآراء حول هوية وإسلامية من قاموا بأحداث نيويورك وواشنطن إلا أن الفوائد التي تحققت من هذه الأحداث حتى الآن كثيرة، ويمكن تلخيص أهمها في التالي:
• إضعاف الهيمنة الغربية ـ ولو بصورة مؤقتة ـ وانشغال أمريكا بحماية نفسها مما سيكون مفيداً للعالم أجمع.
• ظهور الوجه الحقيقي الأمريكي تجاه العالم الإسلامي وهو الذي يجمع بين الاحتقار والاستغلال.
• انكشاف كثير من الشخصيات العربية والإسلامية العامة [ دينية وسياسية ] التي أظهرت الأحداث تهورها أو تفاهتها أو تخوفها و عجزها عن التعامل الصحيح مع الفتن والنوازل التي يمكن أن تلحق بالأمة.
• ظهور الموقف القوي لِلشارع العام العربي والإسلامي وقدرته على التأثير على الأنظمة التي تتراجع عن التأييد التام لأمريكا خوفاً من هذه الشعوب.
• تسابق حكام الغرب ـ لأول مرة في التاريخ ـ في الحديث الإيجابي عن الإسلام ودعوة الشعوب إلى التعرف على حقيقته السمحة[ حق أرادوا به باطل ].
• لأول مرة تهتز فكرة "الضحية" في العقلية الإسلامية المعاصرة، فقليل من الظلم ـ إن ثبت ضلوع العرب والمسلمين فيه ـ قد يعيد الاتزان للنفوس التي استمرأت الانهزام، وتعودت أن تتقبل أن تكون ضحية دائما وأبدا.
• ارتفع سعر الدم العربي والمسلم لأول مرة منذ أكثر من قرنين من الزمان. وأصبح مَنْ يُفكر في الهجوم على شعبٍ مسلمٍ يسعى لِلحصول على موافقة الأطراف العربية والإسلامية، ويترددُ في اتخاذ أي خطوات من شأنها إثارة المارد النائم.
• ظهور الحاجة الحقيقية لإيقاف مسلسل الإرهاب الإسرائيلي في فلسطين بإجماع مفكري ومنظري الغرب لأول مرة منذ عقود.
هل تضررَ العالم العربي والإسلامي؟
لا شك أن الإدارة الأمريكية تُخططُ اليوم لِلاستفادة من الأحداث بشكل قد يضرُ بمصالح الأمة، وبالتأكيد أن الأحداث سيكون لها بعض التداعيات السلبية على الأمة، ولكنها في مجملها تداعيات متوقعة وتعودت عليها الأمة في العقود الأخيرة ويمكن تلخيصُ ذلك في الأمور التالية.
• ضرب شعب أفغانستان دون وجه حق، وموت أبرياء، وتهديد دولة مسلمة.
• ظهور الانتهاكات والتمييز ضد المسلمين في الغرب، ولكنه كان متوقعا، وحدث من قبل عندما تهددت المصالح الأمريكية الداخلية أو الخارجية.
• تضييق على قدوم وإقامة المسلمين في الغرب.
• تزايد احتمال قصف دول إسلامية أخرى، ولكنه كان أمراً متوقع الحدوث في كل الأحوال لِلتحدي السافر لِحكومات مثل الطالبان لِرغبات الإدارة الأمريكية، ولِطبيعة الإدارة الجمهورية لِلبيت الأبيض.
• خسارة بعض القيادات الإسلامية التي انكشفت عند الأزمة، هو من التمحيص الضروري، والذي يسبق الخير دائماً.
أخيراً .. ماذا عن دورنا؟
رغم أن المسلم يفرحُ لِكل حدث من شأنه أن يُضعف عدوه، ويحزنُ لما يُصيب أي دولة إسلامية إلا أن إضعاف أمريكا لا يعني بالضرورة أن الأمة هي البديل. ولا يعني ذلك أيضاً أن مشاكل الأمة من الفقر والتخلف والاتكالية ستحل، ولكن من المهم في المقابل أن نشير إلى بعض البشائر التي تحمل في طياتها دفقات من الأمل لتحيي في الأمة الرغبة في التخلص من المشكلات التي تمر بها. ومن هذه البشارات:
• إي أمر من شأنه إضعاف الغرب سيقللُ من هيمنتهِ الفكرية على عالمنا.
• بريق الأمل سيعيدُ الثقة بالله إلى قلوب أبناء الأمة، وستؤلب الأحداث الكثير من أعداء أمريكا لِلتصدي لِلحملات السافرة لاستغلال واستحقار العالم.
• تحقق بشارة أن هذا الدين ينصر بالبر والفاجر .. ومن قام بهذه الأحداث الأخيرة لا يخرجُ عن أحدهما، وإن كنا نرجو أن يكونوا من الأبرار، ولعل الأيام تثبت صدق ذلك.
• لكي نلحق بمن سبقنا في درب التطور.. فإما أن نَجِدَ نحنُ السيرَ .. أو يتم إبطاءُ مسيرة من سبقنا حتى نلحق بهم.. ولله في خلقه شؤون، ولعل في إبطاءِ الغرب ما يُعطي الفرصة لِلأمة لاستعادة مكانتها الحضارية الصحيحة.
لقد كتب المفكرُ الغربي توبيني أن هدف الحضارة الغربية هو "جمع العالم الإنساني كله في مجتمع كبير واحد، والسيطرة على كل شيء فوق هذه الأرض وفي البحار والأجواء التي ستصل إليها الإنسانية عن طريق التقنية الغربية الحديثة". ولِيتحقق هذا الهدف اتفق الساسة والمفكرون الغربيون على أهمية أن يقبل العالم أن يكون متبوعاً لِلحضارة الغربية وسياستها الليبرالية العالمية.
لقد حاول الغربُ طوال القرون الماضية أن يُرسخَ في أذهان العالم فكرة المتبوع، وهي أنه لا نجاة لِلعَالَم إلا باتباع الغرب اتباعاً لا يُحقق بالضرورة لِهذا المتبوع ذاته في شكل جديد، وإنما يُجعل المتبوع قادراً على خدمة السيد الغربي بشكل أفضل ..فلابد أن يتعَلمَ العالمُ المهارات اللازمة لإجادة التعبير عن الولاء المطلق والطاعة الكاملة لهذا السيد الغربي المتفوق عرقيا وحضارياً.
وجاءت الأحداث الأخيرة ـ رغم دمويتها ـ وهلاك الأبرياء فيها لكي تنسف تماماً فكرة انتصار الغرب في معركة التابع والمتبوع والخادم والسيد .. جاءت هذه الأحداث رغم قسوتها لِتصرُخ في وجهِ أمريكا بكل عنف أن العالمَ لن يقبل أن يكون خادماً مطيعاً لِلحلم الغربي في السيادة والهيمنة.
قد لا نوافق من قام بهذه الأحداث على أسلوب تسليم رسالته لِلغرب والذي تضمن قتل الأبرياء، ولكننا نوافقه أن فحوى الرسالة كان صحيحاً، ولذلك فلم يكن غريباً أن العالمَ الذي سارع بإدانة الحدث لِتحجيم التهور الأمريكي .. قد تَهامسَ فيما بينه أيضاً أن الأسطورة الأمريكية تسيرُ بخطوات متسارعة في منحدر الانهيار، وستعلو في المستقبل الأصوات التي ستحذرُ من خطورة إذلال العالم واستحقارهُ فهناك بالتأكيد أكثرُ من تسعة عشر غاضب على الهيمنة الأمريكية ومنهم من سيرغب في تقديم حياته ثمناً للقضاء على تلك الأسطورة.
################
د. باسم خفاجي. رئيس مجلس إدارة المجموعة الإعلامية الدولية - واشنطن ـ الولايات المتحدة الأمريكية.
articles@khafagi.com