قال الربيع: أنشدنا الشافعي في ذم الكلام:
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعاً
في الدين بالرأي لم تُبعث بها الرسلُ
حتى استخَفَّ بدين الله أكثرهم
وفي الذي حملوا من حقه شغلُ(42)
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 1، 7، 16.
2 - أن العقل السليم يدل على ذلك: فإن الشريعة مبناها على التسليم والانقياد، ولا أحد أعلم بالله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولا أحد أعلم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صحابته رضي الله عنهم، ولا أحد أعلم بالصحابة من التابعين رضي الله عن الجميع، وهم كلهم كانوا أصح الناس عقولاً، وأقومهم هدياً وطريقة، وأحدثهم عهداً بالشريعة فمنهم يُسْتَمد، وعلى التسليم لرب العالمين المعوَّل. وأما التعويل على غير هذا، فما هو إلا خبط في العماية يورث التشكك والتنقل والحيرة والاضطراب وفساد الأمر.
وعليه؛ فالحزم كل الحزم في اتباع هدي السلف الأول والأمر العتيق؛ مع الحذر من البدعة والتبدع(43)!
قال عبد الله بن مصعب:
ولا تصحبنَّ أخا بدعةٍ
ولا تسمعنَّ لهُ الدهرَ قيلا
فإنّ مقالتَهم كالظَِّلال
توشكُ أفياؤُها أن تزولا(44)
ويدل على هذا أيضاً الآثار: 6، 7، 10، 11، 17.
وهذه النقطة عائدة إلى النقطة السابقة، وكلاهما عائد إلى قصد حفظ النفس من البدعة.
3 - قصد حفظ المجتمع من البدعة: فالمبتدعة في ذلك الزمان قليل مقموعون لا شوكة ولا ظهور لهم، وأئمة العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم هم الشموس والأقمار المضيئة للناس في الظلماء.
قال الإمام اللالكائي ـ رحمه الله ـ: «فهم ـ أي المبتدعة ـ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْـحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64] ، ثم إنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام، وظهرت هذه البدع من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، وأُشربت قلوبهم حبها حتى خاصموا فيها بزعمهم تديناً أو تحرجاً من الآثام؛ لم تَرَ دعوتَهم انتشرت في عَشْرةٍ من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو مقالتهم في الإسلام ظاهرة، بل كانت داحضة وضيعة مهجورة؛ وكلمة أهل السنة ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نايرة، ونصب الحق زاهرة، وأعلامها بالنصر مشهورة، وأعداؤها بالقمع مقهورة، يُنطق بمفاخرها على أعواد المنابر، وتُدَوَّن مناقبها في الكتب والدفاتر، وتستفتح بها الخُطب وتختم، ويُفصل بها بين الحق والباطل ويُحكم، وتُعقد عليها المجالس وتُبرم، وتظهر على الكراسي وتدرس وتُعَلَّم..»(45)اهـ.
وعليه؛ فمجالسة أئمة السنة للمبتدع قد تغرُّ به مَن سَلِم من هذه البدعة ولم يعلم بها، أو قد تعطي لهؤلاء شيئاً من الاعتبار والمكانة التي لا يستحقونها، وقد تؤدي إلى انتشار البدعة، وعِلْم الناس البرآء منها بها، قال الغزالي: «فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً»(46)؛ أي وإن كان جدله فاسداً.
قال أبو القاسم الأصبهاني (535) في كتابه (الحجة في بيان المحجة، وشرح عقيدة أهل السنة)، وهو يذكر فصولاً مستخرجة من السنة: «وترك مجالسة أهل البدعة ومعاشرتهم سنة؛ لئلا تعلق بقلوب ضعفاء المسلمين بعضُ بدعتهم، وحتى يعلم الناس أنهم أهل بدعة، ولئلا يكون في مجالستهم ذريعة إلى بدعتهم»(47).
فكان الحزم في توقي استفادة هؤلاء من التعلق بأذيال أهل السنة والاتباع(48).
وقد هجر الإمامُ أحمد الحارثَ المُحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك، ألستَ تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟! ألستَ تحمل الناسَ بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات؛ فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟!(49).
وانظر في ذلك الآثار: 13، 14.
4 - قصد زجر المبتدع عن بدعته: وذلك بهجره وقمعه. والهجر عقوبة شرعية قد استعملها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وكانت في ذلك الزمان من أبلغ العقوبات؛ إذ السنة ظاهرة، والبدعة وأهلها مخذولة محتقرة، فبالتالي تجد أن أكثر الناس يكون هاجراً للمبتدع فلعله أن يتأثر بذلك فينقمع عن بدعته، ويفيء إلى السنة، أو لا أقل من أن يَطْفَأ نشاطُه، ويقل شره، وكلتا الحالتين خير له من التمادي في البدعة، قال أيوب السختياني: «لست برادٍ عليهم بشيءٍ أشد من السكوت»(50).
وقال أحمد بن أبي الحواري: «قال لي عبد الله بن البسري(51)، وكان من الخاشعين، ما رأيت قط أخشعَ منه: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء، ولكن الســنة عنـدنا أن لا تكلم أحداً منهم»(52).
وقال ابن هانئ: «سألت أبا عبد الله عن رجل مبتدع داعية يدعو إلى بدعته، أيجالس؟ قال: لا يجالَس ولا يُكلَّم لعله أن يرجع»(53).
وقال اللالكائي كلاماً نفيساً في بداية أمر مناظرة أهل البدع(54)، ثم قال: «فما جُني على المسلمين جنايةٌ أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قَهر ولا ذُلٌّ أعظم مما تركهم السـلف على تلك الجملة يموتـــون مـن الغيــظ كـمداً ودرداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً؛ حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطَرَقَ أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة..»(55) اهـ.
5 - الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع إلى الإيغال في البدعة أكثر: مع التعصب لها التعصب الذي لولا المناظرة لم يكن بهذه المنزلة. وقد تقدم عن عمرو بن قيس قال: «قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات»(56).
وبالتالي فمن ضرر الخصومات: «تأكيدُ اعتقاد المبتدعة للبدعة وتثبيتُه في صدورهم؛ بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل؛ ولذلك نرى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره. بل الهوى والتعصب، وبغض خصوم المجادلين، وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله ـ تعالى ـ لك الغطاء ويعرِّفَك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفةً من أن يفرح به خصمُه!! وهذا هو الداء العضال الذي استطرد(57) في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب»(58) اهـ.
وغير ذلك من البواعث الجزئية التي لا تخفى على المتأمل، وهي جديرة بالجمع والتتبع(59).
بعد ذلك أقول: إن هذه البواعث الشريفة يختلف تحققها من زمان إلى زمان، ومن شخص لآخر، ومن بلد لغيره وهكـذا، وبالتالي فإن هـذا المــوقف الـذي اتخـــذه السـلــف ـ رحمهم الله ـ وإن كان هو الموقف العام لهم ـ كما سبق الإفاضة في ذلك ـ إلا أنه لم يكن هو موقفهم الوحيد، ولم يكونوا ـ رحمهم الله ـ آلاتٍ صمّاء يرون رأياً ثم يطبقونه بعنف وابتسار وعدم تفقه لدواعيه، وإنما كانوا فقهاء نفسٍ وأهلَ حكمةٍ يضَعون الدواءَ المناسب في مواضعه، ويقدرون لكل أمر ما يستحق، ولذلك فعند عدم وجود المقتضي للحكم؛ فإن الحكم يزول بزوال هذا المقتضي.
----------------------------------------------------------------------
إنتهى.... وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه...
----------
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|