(من آثر الله على نفسه آثره الله والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزازالدين)
_ العز بن عبد السلام _
انعقد اجماع كل المصادر للسير من كتب الطبقات والتراجم التي ذكرت سلطان العلماء العز بن عبد السلام على انه رحمه الله.
اشتهر بصفة عالية سامية فوق صفات هديه وسلوكه المبارك , بل غلبت على جميع تلك الصفات .هي صفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حتى قال السبكي مفتتحا ترجمته (القائم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه )(1)
وقال الكتبي(وكان امارا بالمعروف نهاء عن المنكر لايخاف في الله لومة لائم) (2)
وقال ابن العماد الحنبلي((وهذا مع الزهد والورع والامر بالمعروف والنهي عن المنكر) (3)
وهل يستطيع مسلم ان يامر بالمعروف والنهي عن المنكر دون ان يعرف ما هيتهماوحقيقتهما ومعناهما . نوجز المعنى بهذه الكلمات .....
...المعروف ما عرفه الشرع والمنكره ما نكره , ومن هنا جاء علمه الغزير حتى لقب بسلطان العلماء ومن كان هذا شأنه وتلك صفته لاينجو من محن واضطهاد في حياته, علما بان انكار منكر هو محاسبتهم. لذلك فقد تتابعت عليه المحن واصابه الاضطهاد المرير.
ان الواجب الشرعي يدعونا ان نقر هنا اقرارا متاسفين عليه. محزونين على وقوعه. هي ان المحنة الاولى التي نزلت بهذا الشيخ الجليل والمحن التي نزلت بعده على الشيخ الجليل ابي تيمية رحمها الله تعالى, كان سببها الاختلاف االفكري في المسائل الفقهية والقضايا الكلامية المعتمدة على النصوص الظنية في ثبوتها ودلالتها,ذلك الاختلاف الذي رقي من رتبةالاختلاف الاجتهادي الذي لايخطئ, ويصيب صاحبه فيه, فله اجران ان اصاب وله اجر واحد ان اخطا وهو ما يقره الاسلام’ بل هو الدليل الاعظم على الحيوية الفكرية في الشريعة الاسلامية وعلى طاقة اتساعها في الامور والمسائل, والتي ابعدت الضيق والاحراج عن الامة الاسلاميةفي مختلف العصور....
أقول رقي هذا الاختلاف برحته من هذه الرتبة الى رتبة التعصب المذهبي المقيت بشؤمه ومقته. الذي نهى عنه الاسلام, والذي ادى الى الفتن والاذى بين المختلفين وتفسيق وتبديع بعضهم البعض, مستعينين بالحكام في بعض الاحيان لايذاء بعض الخصوم وانزال المحن بالمخالفين مما ادى الى اضطهاد شيوخ العلماء, والى الاضطراب الفكري والنفسي بين الامة, في الوقت الذي كانت الامة الاسلامية بعلمائها وعامتها في غنى عن ذلك.
ولكن قاتل الله التعصب المذهبي المقيت......اعود فاقول:ان اول محنة نزلت بشيخنا الجليل كانت بفتنة الحنابلة في زمن السلطان الاشرف بن الملك العادل الايوبي بدمشق .
يقول الذهبي
كان للاشرف ميل الى المحدثين والحنابلة وفي عصره حصلت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد وتعصب العز بن عبد السلام على الحنابلة وجرت خبطة ) (4)
ويقول الكتبي ( ولما كان في دمشق سمع من الحنابلة اذى كثيرا رحمه الله (5)
وكان هذا الاذى الذي اصاب شيخنا بسبب الاختلاف في مسألة كلامية ليست من اصول العقيدة الاسلامية ,ان فرضت عليه الاقامة الجبرية في داره ولايفتي احدا من الناس ولايجتمع باحد منهم )(6)
وبقي الشيخ رحمه الله في هذه( الاستراحة؟) الجبرية برهة من الزمن, وتحدث أهل الشام بما حل بشيخهم المفضل , وتهامس العلماء بينهم وتلاوموا على تفريطهم في نصرة الشيخ ومعتقده, حتى قيض الله من ينتصر له عند السلطان, ذلك هو شيخ السادة الحنفية في زمانه جمال الدين الحصيري رحمه الله.
وهناك في دار السلطنة قال السلطان للشيخ الحصيري بعد مناقشته في المسألة:
( ونحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقهوالله لأجعلنه أغنى العلماء , وارسل الى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته).
ولما فاز السلطان باجتماعه به في مرض اصابه طالبا محاللته قال له
اما محاللتك فاني في ليلة احالل الخلق وأبيت وليس لي عند احد مظلمة وأرى ان يكون أجري على الله ولايكون على الناس )..
ثم قدم له مائة دينار مصرية وهدية فردها قائلا
هذه إجتماعة لله لا أكدرها بشئ من الدنيا).وقبل هذه الإجتماعة أمر السلطان بالامساك عن الكلام في مسالة(الكلام) وان لايفتي احد فيها بشئ .. سدا لباب الخصام . والسلطان الاشرف يردد ( لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة ).....
وما ان مرت السنون , واذا بالشيخ يمتحن مرة اخرى لانه انكر على سلطان الشام وحاكم دمشق خيانته للامة الاسلامية,وفيمايلي موجز المحنة وسببها كما يحدثنا بها الامام السبكي في طبقاته , والمقريزي في سلوكه .(7)
ان خلافا نشأ وأشتد, وخلافا طفق منذرا بالكيد والحرب بين الاخوين سلطان الشام وسلطان مصر الصالح نجم الدين ايوب.
وفي سنة 438 ه أوجس اسماعيل خيفة من نجم الدين , فاستعان بالصليبيين اعداء الاسلام . وتحالف معهم على قتال اخيه, واعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا على لاواية السبكي, وكذلك قلعة صفد على رواية المقريزي وغيره.
وأمعن اسماعيل في هذه الخيانةفسمح للصليبين ان يدخلوا دمشق ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب وما يريدون ,وأثار هذا الصنيع المنكر استياء المسلمين وعلمائهم.
فهب الشيخ العز واقفا بوجه الخيانةوالخائنين وافتى بتحريم بيع السلاح لهم ,وصعد على منبر جامع الاموي بدمشق في يوم الجمعة حيث كان خطيبه الرسمي وأعلن الفتوى, وشدد في الانكار على السلطان وفعلته المنكرة وخيانته الفظيعة لامة الاسلامية. وقطع من الخطبة الدعاء للسلطان اسماعيل وهو بمثابة الاعلان بنزع البيعة ورفع الولاء عن السلطان يومئذ وصار يدعوا بدعاء منه: ( اللهم ابرم لهذه الامة ابرام رشد تعز فيه اولياؤك وتذل فيه اعداؤك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك ....)
والمصلين يضجون بالتأمين على دعائه.....ولم يكن السلطان حاضرا تلك الخطبة اذ كان خارج دمشق , ولما أعلمه رجاله بذلك أمر بعزل الشيخ من خطبة الجمعة وأعتقاله مع صاحبه الشيخ ابن الحاجب المالكي لأ شتراكه معه في الانكار ....!!!!
. وكان انصار الشيخ العز قد أشاروا عليه ان بان يغادر البلاد وان ينجوا بنفسه, واعدوا له وسائل الهرب ولكنه رحمه الله أبى ذلك وألحوا عليه فأصر على الاباء, فعرضوا عليه ان بختبئ في مكان أمين لايهتدي اليه السلطان ورجاله فرفض هذا العرض ايضا وقال : ( والله لاأهرب ولا أختبئ وأنما نحن في في بداية الجهاد, ولم نعمل شيئا بعدوقد وطنت نفسي على احتمال ما ألقى في هذا السبيل . والله لايضيع عمل الصابرين ) .(8)
الجزء الاول يتبع الجزء الثاني..
حواشي :
(1) ص 80 ج 5 الطبقات
(2)ص 95 ج1 فوات الوفيات.
(3)ص 302 ج 5 شذرات الذهب
(4)سيرة اعلام النبلاء
(5)ص 596 ج1 فوات الفوات
(6)ص 80 ج5 طبقات الشافعية للسبكي
(7)يراجع ص 303 وما بعدها ج1 السلوك وص 5 وما بعدها الطبقات للسبكي
(8)يراجع ص 100 واسلاماه للاستاذ احمد باكثير .