الحائط الأخير - الياس خوري
الياس خوري
يلبس معطفا كاكيا، ويلتفت الي اليمين، من اجل الصورة الفوتوغرافية. خلفه حائط وامامه حائط، وعلي وجهه ارتسمت علامات القلق والتحدي. انه زكريا زبيدي، قائد كتائب شهداء الاقصي في جنين. فتي اسمر، في اواخر العشرينات او اوائل الثلاثينات، ملوح بالقهر. شاربان خفيفان، عينان بنيتان تنظران الي البعيد، والتفاتة اخيرة. انا رجل ميت ، قال للصحافي الاسرائيلي جدعون ليفي، في حوار نشره ملحق جريدة هآرتس الاسبوعي (الجمعة 26 اذار ـ مارس الجاري). الصحافي الاسرائيلي الذي غامر في الدخول الي جنين، من اجل اجراء مقابلة مع الرجل الذي يطارده الاسرائيليون، وجد نفسه امام رجل ميت يحكي. قال زكريا انه يعرف ان الموت في انتظاره. الفتي الفلسطيني الذي سجن للمرة الاولي حين كان في الرابعة عشرة، ثم قضي سبعة اعوام في السجون الاسرائيلية، صار في عمر الرجال. يحمل مسدسا، ويدخن، ويتردد طويلا قبل ان يرد علي هاتفه الخليوي. قال انه صار ابا، وان ابنه محمد (حمودي)، قد يعيش حياة افضل. كان الألم باديا علي وجه زكريا، فلقد اصيب بثلاث رصاصات في يده وكتفه، عندما حاول الاسرائيليون اغتياله، ولم يتسن له ان يعالج في شكل حقيقي.
روي كيف حاول مرة، مع رفيقه علاء، اجراء اتفاق لوقف اطلاق النار مع الكابتن جمال، مسؤول الشين بيت في جنين. قلت له اسمع، انتم لا تدخلون ونحن لا نخرج، فكان جوابه الرفض، وطلب منا تسليم انفسنا، نحن جنود قلت له، فلنتفق مثلما يتفق الجنود، لكن قال لا .
الشاب الفلسطيني الاسمر، يقف في الصورة، بمعطفه الكاكي، بين حائطين، ينظر الي البعيد، ويحاور اليأس. لقد قتل الاسرائيليون زياد فجاء زهير، قتلوا زهير فجاء علاء، قتلوا علاء، فجاء زكريا. انه يعرف ان حكم الاعدام قد صدر في حقه، لكنه يعرف ايضا انه بعد زكريا سيكون هناك رجل اخر، وبعد ذلك الرجل سيأتي رجل..
جاء الاسرائيليون الينا وارتكبوا الجرائم، قتلوا امي وقتلوا اخي، لقد تم تحويل الشعب الاسرائيلي الي قتلة .
هكذا قال زكريا. روي انه لا يستطيع ان لا ينتقم للفتية الخمسة الذين قتلوا، خطأ، خلال محاولة الاسرائيليين اغتياله. تسمحون لأنفسكم بالقتل، اما نحن فممنوع ان نقتل . ثم تساءل: هناك خمسة بيوت لم تجف دماء ابنائها بعد، الان لا استطيع ان اقبل وقفا لاطلاق النار .
روي زكريا عن حقول الدم التي يغرق فيها شعب كامل، وعن الجدار الذي يحول المدن سجونا، لكنه تحدث عن السلام من اعماق يأسه: ربما سوف يموت زكريا، ويعيش حمودي في سلام .
انظر الي عيني الشاب الفلسطيني الذي يستند الي حائط الحصار في جنين، واقرأ فيهما ظلالا لكل الخيبات التي تراكمت فوق تاريخنا العربي الحديث. اراه، مثلما رأيت صديقي علي ابو طوق، حين كان وحده في مخيم شاتيلا، يقاتل وظهره الي الخراب، في حرب المخيمات، وعندما سقط علي شهيدا، وبعده سقط المخيم في بئر الخوف، اكتشف الفلسطيني عمق وحدته، وعظيم يأسه، وقوة عينيه.
شعب يقاتل بالعيون، لان السلاح لا وجود له، ولا قيمة له، وحدهما العينان المعلقتان في الوجه، مثل قنديلين مشتعلين، يخوضان الحرب، ويصران علي استقبال اكبر كمية من الضوء، قبل ان تحل العتمة الشاملة.
زكريا ليس خارجا علي القانون، انه جندي، مثله مثل الوف الفلسطينيين والفلسطينيات الذين يقتلون، او يؤخذون الي السجون المعتمة. لكن ماذا يقول الفلسطيني في زمن خرست فيه اللغة العربية؟
انه وحده، انها الوحدة.
هذه الوحدة، وهذه العزلة، وهذا اليأس الذي تعيشه فلسطين، هي مؤشرات الهلاك الذي نعيشه جميعا. هو في جنين، في قلب الاشتباك، يتحايل علي الموت بالموت. اما عرب هذه الساعة المنقلبة، فهم يموتون بلا اشتباك، ويسجنون بلا سجون، ويترنحون في الصمت القاتل.
الميت يحكي والاحياء يخرسون!
عندما قرأت مقابلة زكريا زبيدي، شعرت كيف انني فقدت الكلام. الميت ـ الحي يحكي عن الحياة، انه علي الاقل يلاعب الموت، ويتهرب منه، هناك في الوحدة العميقة، حيث مجزرة جنين مرسومة علي الجدار الضخم الذي يخيف المدينة الفلسطينية الصغيرة، هناك يقف رجل بين حائطي الموت، بعينيه البنيتين، ويتكلم عن اليأس بلغة الأمل.
هذا اليائس، الذي رسم الحياة علي جسده الممزق بالرصاص، هو صورتي التي لا اجرؤ علي النظر في مرآتها.
لو كنت اسرائيليا، وقرأت هذا الحوار، لشعرت بالخجل والخوف.
لكنني عربي، واقرأ كل يوم اشلاء شعب كامل واغمض عيني كي لا اري، فتنغرس المسامير في عيوني.
لكن زكريا فتح عينيه ونظر الي البعيد، الي خلف الكاميرا التي تصوره، نظر فــــرأي صورته علي الحيطان، وابتسم. لم يقل للصحافي الاسرائيلي ان الجدار الذي بنوه، لن يستخدم الا من اجل ملصقات الشهداء. نظر فرأي صورته تحتل الحائط كله، ابتسم، ومضي.
0
|