الأمير الغازي عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية
عام :صفحات منسية :الأربعاء 4 ربيع الأول 1426هـ -13 أبريل 2005 م
مقدمة
إن الأمور الحتمية القدرية التي قضاها الله عز وجل والتي يغفل عنها معظم المسلمين ويجهلها تماماً أعداء الإسلام أن الله عز وجل قد حفظ أمة الإسلام من الزوال بالكلية واستجاب لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم في ألا يسلط عليها عدو من سواها يستأصل شأفتها، فأمة الإسلام قد تضعف وقد تمرض مرضاً شديداً ويدب الوهن في كل أعضائها ولكنها لا تموت ولا تخلو الأرض أبداً إلى قيام الساعة من الجماعة المؤمنة الموحدة، فهي لا تنقرض وتزول مثلما حدث مع دول أخرى كبيرة مثل دولة الإغريق أو الرومان أو الفرس، وكلما سقط للمسلمين في بلد دولة قام لهم في بلد آخر دولة، وكلما اضطهدوا واستضعفوا في بقعة قووا وتجمعوا في بقعة أخرى، ومهما كانت الضغوط والابتلاءات على المسلمين فإن جذوة الإيمان تظل حية متقدة في قلوبهم ومن لا يصدق ينظر إلى مسلمي روسيا وما عانوه لعهود طويلة من نكال واضطهاد، ولما سقطت إمبراطورية الكفر نهض المسلمون من تحت الركام في أيديهم مصحفهم وفي قلوبهم هداية الإسلام، وفى نفس العام الذي سقطت فيه الخلافة العباسية العريقة تحت ضربات الجحافل الهمجية المغولية سنة 656 هجرية، ولد رجل وسط غمار هذه الأحداث الرهيبة، قدر له أن يكون منشأ دولة تنوب عن أمة الإسلام في التصدي لأعدائها لقرون عديدة، ودولة ستعيد مجد الخلافة الإسلامية ودولة ستنشر الإسلام في قلب أوروبا ويتحقق على يديها موعود النبي صلى الله عليه وسلم بفتح عقر دار النصرانية 'القسطنطينية'، ونعنى بها الدولة العثمانية التي تنتسب لبطلنا هذا الذي نؤرخ له .
أصل الدولة العثمانية
يرجع أصل الدولة العثمانية إلى الجنس التركي أو التركماني، وكلاهما واحد فالتركمان هو نحت لكلمتين هما 'ترك' و'إيمان' وكانت علامة على من يؤمن من قبائل الترك بالإسلام حيث كانت الوثنية منتشرة فيهم قبل الإسلام، وينتسب العثمانيون إلى قبيلة تركمانية كانت عند بداية القرن السابع الهجري الموافق الثالث عشر الميلادي تستوطن شمال العراق في إقليم كردستان، وتعيش على رعي الدواب، ولكن هذه القبيلة تحت الضغط المغولي الوحشي اضطرت للهجرة إلى بلاد الأناضول وذلك سنة 617 هجرية، واستقرت هذه القبيلة في مدينة 'أخلاط' وكانت من أملاك الأيوبيين، فلم يستقر بهم الحال بالمدينة فواصلوا الهجرة باتجاه الشمال الغربي حيث كانت دولة سلاجقة الروم وزعيمها علاء الدين السلجوقي.
كان دخول العشيرة التركمانية وزعيمها 'أرطغرل بن سليمان' إلى أرض سلاجقة الروم أشبه ما يكون بالملاحم الأسطورية وقصص التراث الشعبي المشوقة؛ ذلك لأن 'أرطغرل' وقبيلته عند دخولهم لأرض سلاجقة الروم وجد قتالاً شرساً تدور رحاه بين المسلمين والبيزنطيين وكانت الكفة قد أوشكت للميل ناحية البيزنطيين، وهنا تقدم أرطغرل ورجال قبيلته لنجدة إخوانهم في الدين من الهزيمة، وكان هذا التقدم سبباً لانتصار المسلمين على النصارى، وقدر 'علاء الدين' هذه الفعلة لأرطغرل وعشيرته وأعطاهم قطعة كبيرة من الأرض في الحدود الغربية على الحدود مع الدولة البيزنطية ليسكنوا فيها وأقام معهم حلف مودة وأخوة وجهاد ضد الدولة البيزنطية.
الأمير عثمان
ولد عثمان بن أرطغرل سنة 656 هجرية أي في نفس العام الذي سقطت فيه دولة الخلافة العباسية، أي أن عثمان ولد في أجواء مضطربة والأمة الإسلامية في حالة ضعف واضطهاد وتسلط من أعدائها، فتفتحت عيني الصبي الصغير على مآسي المسلمين وزوال هيبتهم وضياع خلافتهم، وتفتحت أيضا على عدو صليبي عنيد مرابط على ثغور قبيلته، فنشأ 'عثمان' محباً للجهاد، مشحوناً بالإيمان، تشتعل بداخله رغبة عارمة في استعادة أمجاد المسلمين والانتقام من أعداء الإسلام.
كانت القبيلة التركمانية التي هي معدن العثمانيين وأصلهم بحكم موقعها الجديد المجاور للبيزنطيين قبيلة جهادية معنية بأمور الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام، مما جعلها قبيلة مؤمنة يطغى عليها سمت الإيمان والحياة النقية فلا مجال للترف ولا وقت للهو واللعب بل حلقة مستمرة من الجهاد ضد أعداء الإسلام، لذلك نجد أن 'عثمان' كان ملازماً لأبيه أرطغرل في جهاده ضد الصليبيين، وأيضا ملازما لأحد علماء الدين الصالحين الورعين واسمه الشيخ 'إده بالي' القرماني، يتعلم على يديه ويبيت عنده الليالي، وكانت ابنة الشيخ صالحة وجميلة فأراد 'عثمان' أن يتزوجها فرفض الشيخ في بادئ الأمر ولكنه عاد ووافق بعدما قص عليه 'عثمان' هذه الرؤيا العجيبة، فلقد نام عثمان عنده يوما فرأى في منامه {كأن قمراً خرج من حضن الشيخ ودخل حضنه عند ذلك نبتت شجرة عظيمة من ظهره ارتفعت أغصانها إلى عنان السماء تحتها جبال عظيمة تتفجر منها الأنهار ثم تحولت أوراق الشجرة إلى سيوف مشرعة ناحية القسطنطينية} فاستبشر الشيخ 'إده بالى' بهذه الرؤيا ووافق على تزويجه من ابنته، وبشر عثمان بأنه وذريته سيرثون الأرض ويحكمون العالم.
انهيار مملكة سلاجقة الروم
كانت مملكة سلاجقة الروم قد تكونت بعد المعركة الخالدة 'ملازكرد' سنة 463 هجرية والتي انتصر فيها السلاجقة بقيادة ' ألب أرسلان' على جحافل البيزنطيين يقودهم الإمبراطور 'رومانوس ديوجين' وقد فتحت هذه المعركة الطريق أمام السلاجقة المسلمين للانسياح في منطقة الأناضول، وعين السلطان 'ملكشاه بن ألب أرسلان' أحد أقاربه وهو 'سليمان بن قتلمش' واليا على الأناضول أو آسيا الصغرى لمواصلة التوسع في أرض الروم واستمرت هذه المملكة أكثر من قرنين من الزمان وتعاقب عليها أربعة عشر حاكماً من سلالة 'سليمان بن قتلمش' حتى ظهر المغول في ساحة الأحداث.
بعدما اسقط التتار الخلافة العباسية واصلوا حملتهم البربرية لإبادة الإسلام وأهله، فاتجهوا ناحية الشام التي سقطت سريعاً في أيديهم ولكن الله عز وجل الذي حفظ الإسلام وأهله من سنة الاستئصال قيض المماليك وقائدهم سيف الدين قطز ليوقفوا الاكتساح التتري وينتصروا عليهم في معركة عين جالوت سنة 658 هجرية، وبعدها حول التتار وجهتهم إلى منطقة الأناضول حيث مملكة سلاجقة الروم والتي قد دب الضعف والتفرق بين أمرائها مما جعلها لا تصمد أمام ضربات التتار وخاف بعض أمرائها وتحالفوا مع التتار ضد إخوانهم المسلمين واستعانوا بالكافرين على المؤمنين، مما جعل الظاهر بيبرس يسير إلى بلاد سلاجقة الروم سنة 675 هجرية ويحاربهم مع حلفائهم التتار والكرج 'أهل جورجيا الآن' وينتصر عليهم في معركة البستان، ومع قوة المماليك وضعف المغول واهتمامهم بالعراق وما حولها فقط زالت دولة سلاجقة الروم وقامت مكانها إمارات في الأناضول منها أبناء أيدين وأبناء تركة وأبناء أرتنا وأبناء كرميان وأبناء حميد وأبناء صاروخان وغيرهم كثير.
قيام الدولة العثمانية
مر بنا كيفية دخول واستقرار القبيلة التركمانية بقيادة 'أرطغرل بن سليمان' في غرب الأناضول بعدما سمح لهم أمير إمارة القرمان علاء الدين السلجوقي بالاستيطان بإمارته وعقد حلفاً مع 'أرطغرل' للدفاع المشترك ضد العدو البيزنطي، ولما توفي أرطغرل سنة 687 هجرية تولى مكانه ولده عثمان، فبدأ يوسع أملاك القبيلة ناحية الغرب بموافقة علاء الدين أمير القرمان، وأصدر عثمان عمله باسمه كناية عن المكانة والسيادة .
في سنة 699 هجرية أغار المغول على إمارة القرمان ففر من وجههم 'علاء الدين' ودخل بلاد الروم وما لبث أن مات بها في نفس العام وتولى من بعده ولده 'غياث الدين' الذي حارب المغول ولكنه قتل في حربه ضدهم فأفسح المجال لعثمان أن يستقل بما تحت يديه من أراضي خاصة بعدما انفرط العقد بتلك البلاد الهامة والتي تعتبر ثغر المسلمين قبالة عدوهم العتيد؛ الدولة البيزنطية، وأعلن 'عثمان' قيام الدولة الإسلامية الجديدة في هذه البقعة الملتهبة من العالم، ولم يكن هذا التأسيس من باب حب السلطة والتملك، إنما كان حباً في نشر الإسلام.
عقبات فى الطريق
عندما قامت الدولة العثمانية وظهرت للوجود سنة 699 هجرية، كانت البقعة الملتهبة التي قامت بها مليئة بالعقبات والمشاكل التي ستصطدم حتماً ولابد بهذه الدولة الوليدة، هذه العقبات كانت كالآتي:
· عقبات داخلية وتتمثل في الإمارات المجاورة للدولة العثمانية مثل إمارات القرمان ومنتشا وصاروخان وغيرهم كثير، وكان أمراء تلك البلاد ضعفاء متفرقون يؤثرون الدنيا ومتاعها الزائل لذا قعدوا عن الجهاد واشتغلوا بخلافاتهم الداخلية ومطامعهم الشخصية عن نصرة الإسلام ومقارعة الأعداء مما أطمع فيهم المغول والصليبيون وغيرهم، وهؤلاء المتسلطون على إماراتهم رفضوا أية محاولة للاتحاد مع الأمير عثمان ووقفوا حجر عثرة في سبيل إعادة مملكة سلاجقة الروم المتحدة القوية بل وقفوا أمام أي اتحاد، وبالتالي كانوا عبئاً ثقيلاً على حركة الفتح الإسلامي.
· عقبات خارجية وتتمثل في الإمارات الصليبية المتناثرة في منطقة الأناضول الواسعة والذين يحكمون هذه المناطق على شكل الحكم الذاتي مع الارتباط الديني والقومي مع الدولة الأم 'بيزنطة'، مثل إمارة بورصة ومادانوس وأدره نوس وكستله وغيرهم، وهؤلاء عداوتهم أصلية وقديمة، لذلك قرر الأمير عثمان أن يبدأ رحلته الجهادية بمواجهة الصليبيين في منطقة الأناضول، خاصة وأن أمراء الصليبيين قد تنادوا سنة 700 هجرية بتكوين حلف صليبي لتصفية الوجود الإسلامي الجديد بالأناضول بعدما سقطت سلطنة سلاجقة الروم.
رحلة الجهاد المقدس
بدأ الأمير عثمان الأول رحلته الجهادية المقدسة واضعاً نصب عينيه هدفاً أسمى هو إعلاء كلمة الله عز وجل في فترة زمنية حرجة بالنسبة للأمة الإسلامية التي تعانى من ضربات التتار من ناحية الشرق وضربات الصليبيين الأسبان بالأندلس ناحية الغرب، وكانت صفات عثمان الأول الإيمانية وعميق حبه للدين غالبة وحاكمة على تحركاته وحملاته ، فكان لا يبدأ القتال مع أعداء الإسلام إلا بعد ما يعرض عليهم الخصال الثلاثة الإسلام أو الجزية أو القتال.