وقالت طائفة من أهل العلم -وهو قول الجمهور- : إن الفرض والواجب واحد من حيث الدليل عليهما، ومن حيث المرتبة، فيقال : الصلوات الخمس فرائض، ويقال : هي واجبة، ويقال صوم رمضان واجب، ويقال : فرض، يقال الحج واجب وفرض، يقال : بر الوالدين واجب وفرض، وهكذا على القول الثالث، وهو القول المعروف المشهور؛ لأن الفرائض والواجبات معناهما واحد، فالفرض معناه الواجب؛ ولهذا نقول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام- : ( إن الله تعالى فرض فرائض، فلا تضيعوها ) يعني ما أوجبه الله -جل وعلا -في القرآن فلا نضيعه، نهى -عليه الصلاة والسلام- عن تضييعه، وما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو من حيث اللزوم والإلزام بعدم تضييعه بدليل خارج عن هذا الدليل، وهو بدليل قول الله -جل وعلا -: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} الحشر ، وبقوله -جل وعلا : - ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132} آل عمران ، والآيات كثيرة في هذا الباب، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: ( ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه ) إلى أن قال: ( ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ) في الحديث المعروف، حديث تحريم الخمر في خيبر إلى آخره .
المقصود أن قوله: ( فلا تضيعوها ) يعني: امتثلوا وأدوا هذه الفرائض، ولا تضيعوها بعدم الامتثال، فإن الله ما فرضها إلا ليمتثل، وهذا دليل على أن من ضيع أثم؛ لأنه نهى عن التضييع، وهذا داخل ضمن القاعدة أن ترك الواجب محرم.
قال : ( وحد حدودا فلا تعتدوها ) هذا اللفظ ( حد حدودا فلا تعتدوها ) يدخل فيه البحث من جهات كثيرة، لكن ألخص لك ذلك بتقرير قاعدة عامة في فهم نصوص الكتاب والسنة، التي جاء فيها لفظ الحد والحدود، وهي أنها جاءت على ثلاثة أنواع من الاستعمال:
الأول: أن يؤتى بلفظ الحدود بإطلاق، يعني: بلا أمر أو نهي بعدها، كقوله -تعالى- في سورة النساء : (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} النساء
الثاني : أن تأتي، ويكون بعدها النهي عن الاعتداء، كقوله -جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً {1} الطلاق ، وكقوله: ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229} البقرة .
والثالث: أن يكون بعد ذكر الحدود النهي عن المقاربة، فلا تقربوها في آية البقرة التي فيها ذكر الصيام والاعتكاف ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} فهذه ثلاثة أنواع في القرآن .
وفي السنة أتى الحد -أيضا- ويراد به العقوبات المقدرة، أو يراد به الذنوب التي عليها عقوبات، يعني: المحرمات التي يجب في حق من اقتحمها أن يعاقب.
.. يتبع ..