رمضان.. محطة سفر إلى الجنة ( 7 )
رمضان محطة سفر إلى الجنة.. (7)
المجال الخامس: قيام الليل..
شهر رمضان كغيره ظرف لأداء الفرائض والنوافل، إلا أنه يزيد على بقية الشهور، بزيادة فرض صيامه، وكثرة نوافله ومضاعفة حسناته.
والواجب على المسلم المحافظة على ما فرض الله عليه من عباداته، التي لا يسقط حكمها عنه في جميع الأوقات، كالصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام.
وينبغي أن يكون في محافظته على تلك الفرائض في رمضان، أشد حرصاً من محافظته عليها في غير رمضان، لأن أجره مضاعف على عبادته في هذا الشهر الكريم، وأداء الفرائض أحب إلى الله من أداء غيرها، وإن كان كلاهما محبوباً له تعالى.
كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عن ربه سبحانه وتعالى ـ: (( …وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه… )) [البخاري (5/2384)].
فلا يجوز للصائم التساهل في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، بالنوم عنها حتى يخرج وقتها، متذرعاً بما يقوم به من نوافل الطاعات، كصلاة التراويح.
بل لو فرض أن صلاة التراويح وهي نافلة، كانت سبباً في نومه عن صلاة الفجر حتى يخرج وقتها، وجب عليه التخفيف من صلاة التراويح بالقدر الذي يتمكن معه، من أداء صلاة الفجر في وقتها..
والمحافظة على الصلاة المفروضة في الجماعة في المساجد، أولى من المحافظة على التراويح في ذلك، إذا فرض أن المسلم لا يستطيع الجمع بينهما..
مع العلم أنه – في الغالب – يستطيع الجمع بين الأمرين، وهذا هو الذي ينبغي أن يجتهد في فعله في حدود طاقته، ليجمع بين الفضيلتين في شهر الفضائل.
أما الذي يقصر في الأمرين أو في أحدهما، مشتغلاً بتوافه الأمور عنهما، فهذا شخص مُفَرِّط محروم، جدير أن يعود على نفسه بالندم واللوم، لأنه تعمد أن يخسر في موسم الغنائم والأرباح، فاستبدل الخيبة والأحزان، بالمراحم والأفراح.
ولنعد إلى الكلام عن قيام الليل..
فهو مشروع في كل ليلة من ليالي عمر المسلم، وقد كان في أول الأمر مفروضاً، على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن فيه تسلية لهم عما كان يصيبهم من الفتنة والأذى، عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وقد تولت السيرة النبوية تفاصيل تلك الفتنة وذلك الأذى، فكان في كثرة لجوئهم إلى الله ومناجاته وقوة الصلة به، ما يفرغ على قلوبهم الصبر، وعلى نفوسهم الطمأنينة والثقة بالعزة والنصر.
قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً )) [المزمل:1-9].
قال ابن جرير :
"عن ابن عباس في قوله: (( قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً )): فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل، إلا قليلا فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم، فرحمهم وأنزل الله بعد هذا: (( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْض )) إلى قوله: (( فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ )) فوسَّع الله وله الحمد، ولم يضيِّق". [تفسير الطبري (29/125) ويراجع تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: (4/436)].
و قال سيد قطب رحمه الله عند قوله تعالى: (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )) [المزمل: 5]:
"وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل، بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي.
إن هذا كله، هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير". [في ظلال القرآن (29/3745)].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، شديد الحرص على قيام الليل، شديد الاجتهاد في ذلك، فكان يقوم حتى تتورم قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر طمعاً في أن يكون كثير الشكر لربه.
كما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتَكَلَّفُ هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ( أفلا أكون عبداً شكورا؟ ). [البخاري (1/380) ومسلم(4/2171)].
وكان كذلك شديد الحرص على قيام أصحابه بصلاة الليل، ليكونوا من عباد الله الصالحين، ولينالوا مغفرة الله ورحمته..
كما روى أبو أمامة الباهلي:
عنه صلى الله عليه وسلم، قال: ( عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم ). [سنن الترمذي (5/552) والمستدرك على الصحيحين (1/451)وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وهو في صحيح ابن خزيمة (2/176)]
هذا في قيام الليل بصفة عامة...
ولرمضان خصوصيته في قيام الليل…
كان من الغالب المعتاد أن يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم، النوافل الراتبة وغير الراتبة، في منزله، ومنها قيام الليل في جوف الليل..
كما قال لمعاذ بن جبل:
(...إن شئت أنبأتك بأبواب الجنة )..
قلت: أجل يا رسول الله..
قال: ( الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله )..
قال ثم قرأ هذه الآية: (( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )) [السجدة:16]. [جزء من حديث طويل، أخرجه الترمذي (5/11) والحاكم في المستدرك (2/447) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"].
ولكنه صلى الله عليه وسلم، خص رمضان بالقيام في مسجده، والظاهر أنه أراد أن يقتدي به أصحابه، ويجتهدوا في العبادة هذا الشهر الكريم، كما يرونه يجتهد فيه..
وقد توافد أصحابه عندما علموا ذلك إلى المسجد للصلاة وراءه، وزاد عددهم ليلة بعد أخرى، فخشي صلى الله عليه وسلم عليهم المشقة عليهم، أو ظنهم أنها مفروضة..
روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فلما أصبح، قال: ( قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان ).. [البخاري (1/380)].
ثم صلى الصحابة رضي الله عنهم، قيام الليل في رمضان بعد وفاة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، في مسجده فرادى أو جماعات، بعد وفاته، فلما رآهم عمر يفعلون ذلك جمعهم على إمام واحد يصلون خلفه جماعة، لأنهم أمنوا ما كان يخشاه من كتابة قيام رمضان عليهم، لانقطاع الوحي...
روى عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال:
"خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: "والله إني لأراني لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل".. فجمعهم على أبي بن كعب..
قال:
ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس [لعله: "وراء"] قارئهم فقال عمر: "نعمت البدعة هذه، وتلك التي تنامون عنها، أفضل من التي تقومون، " يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. [الموطأ (1/114)].
وقوله : "نعمت البدعة" ليس المراد أنها بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يتهم بعض الفرق بذلك عمر رضي الله عنه، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أقر أصحابه على صلاتهم بعده، ثلاث ليالٍ أو أربعاً، وإنما لم يستمر بهم على ذلك، لعلة ذكرها لهم..
وهي: ( ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم )..
فالبدعة المذمومة هي التي لا أصل لها في الشرع، أما ما له أصل، فإطلاق البدعة عليه إطلاق لغوي لا شرعي.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"وكذلك قيام رمضان، قد قال: ( إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في آخر الشهر ليالي، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم يداوم بهم على الجماعة، خشية أن تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته.
وقد قال في الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ).
فما سنه الخلفاء الراشدون، ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة، لكونه ابتدئ، كما قال عمر: "نعمت البدعة هذه..." [مجموع الفتاوى (21/319) يراع تفسير القرطبي 02/87)].
ولهذا المجال بقية..
موقع الروضة الإسلامي..
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=start
__________________
إرسال هذه الحلقات تم بتفويض من الدكتور عبد الله قادري الأهدل..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
|