الـــقـــرار الأخـــيـــر 
الشيخ الدكتور / عائض بن عبد الله القرني 
يا أرضَ بالقرن مازلنا محبينا = لا البعدُ ينسي ولا الأعذارُ تثنينا 
فسائلي الغيمَ كم أسقى معاطفَنا = وسائلي البرقَ كم أحيا مغانينا 
لي فيكِ يا دوحةَ الأمجادِ ملحمةٌ = محفورةٌ في كتابٍ من ليالينا 
يوم الصبا كقميصِ الخزِ ألبسُه = والروضُ اخضرُ مملوءٌ رياحينا 
والرملُ لوحي وأقلامي غصونُ ندا = والربعُ يمطرهُ القمريْ تلاحينا
يا ارضَ بالقرن لو فتشتِ في خَلَدي = وجدتِ فيه أخاديدًا وتأبينا 
جرحٌ من الحبِ يا بالقرن ما اندملتْ = أطرافُهُ باتَ يُقصينا ويُدنينا 
قد زرتُ بعدكِ يا بالقرن كلَّ حمى = وطرتُ في الجو حتى جئتُ برلينا 
فما رضيتُ سواكم في الهوى بدلاً = لأنني عاشقٌ دنياك والدينا 
رأيتُ باريسَ في جلبابِ راهبةٍ = شمطاءَ قد بلغتْ في العمرِ سبعينا 
وأنتِ في ريَعَان العمرِ زاهيةٌ = في ميعةِ الحسن إشراقاً وتكوينا 
أتيتُ واشنطنًا لا طاب مربعُها = رأيتُ ساحتَها في الضيقِ سجِّينا 
فلا نسيمَ كأرضي إذ يُصبِّحنا = ولا ندى الطلِ في الوادي يمسِّينا 
ارضُ السنابلِ لا ارضَ القنابلِ يا = سِحْرَ الوجودِ ويا حرزَ المحبينا 
يا روضةً طالما هزَّتْ معاطفَها = كأنها بتباشيرٍ تحيينا 
وربوةٍ كم درجنا في ملاعبها = عهدُ الطفولة يزهو من أمانينا 
والأربعون على خدي مروِّعةٌ = يا ليت أني أهادي سنَّ عشرينا 
والغبنُ يكتب في أضلاعنا خطبًا = مدربُ القلف يعطينا تمارينا 
يقتاتُ من لحمنا غصْبًا ويجلُدنا = ويستقي دَمَنا زورًا ويظمينا 
وإن نظَمْنا بيوتَ الشعرِ نمدحه = يظل بالشَّعَر المفتولِ يلوينا 
إذا اقترحنا على أيامنا طلبًا = ذقنا المنايا التي تطوي أمانينا 
آهٍ على قهوةٍ سمراءَ نشربُها = في غرفةٍ من ضميمِ الطيِن تؤوينا 
سِجادُها بحصيرِ النخلِ ننسجه = وريشُها بنقي الصوفِ يدفينا 
بعنا الهمومَ بدنيانا صيارفةً = لسنا جباةً وما كنا مرابينا 
لم ندّخِرْ قوتَنا بخلاً ليومِ غدٍ = لكل يومٍ طعامٌ سوف يأتينا 
ونملأُ الضيفَ ترحابًا لننسيَهُ = ما غابَ من أهله عنه ويُنسينا 
أمام غرفتِنا يجري الغديرُ على = صوتِ الحمامِ بأبياتٍ يُغنينا 
قلوبُ أصحابِنا طُهْرٌ وسيرتُهم = مثلُ الزلالِ الذي في القيظِ يروينا 
أيامَ لا كدلكٍ يعوي بحارتنا = ولا البواري تدوّي في نوادينا 
واليومَ أموالُنا باتتْ تؤرقُنا = همًا وأولادُنا بالغمِّ تؤذينا 
إذا رفعنا بآياتٍ عقيرتَنا = قالوا: غلوٌ وهذا خالفَ الدينا 
وإن همسنا بحبٍّ في مجالِسنا = قالوا: يدبر أعمالاً لتردينا 
وإن لبسنا بشوتًا عرَّضوا سفهًا = بأننا نزدهي فيها مرائينا 
وإن تقشَّف منا صادقٌ ورِعٌ = قالوا: يخادِعُنا عمْدًا ويغوينا 
إذا صمتنا اقضَّ الصمتُ مضجعَهم = وإن نطقنا شربنا كأسَنا طينا 
إذا أجبْنا على الجوالِ أمطَرَنا = بالسبِّ مَنْ كان نغليه ويغلينا 
وإن أبينا أتتنا من رسائله = مثل السعيرِ على الرمضاء تشوينا 
قلنا لهم هذه الأشياءُ حلَّلَها = أبو حنيفة بل سُقنا البراهينا 
قالوا: خرقتَ لنا الإجماعَ في شُبَهٍ = مِن رأيِك الفجِّ بالنكراءِ تأتينا 
وإن ضحكنا أضافونا بسخرية = صفراءَ تملؤنا غبنًا وتذوينا 
وإن بكينا لظلوا شامتين بنا = كأنهم وحدَهُم صاروا موازينا 
تفردوا بخطايانا وأشغلَهُم = عن ذكرِ سُوئِهُمُ المُرْدي مساوينا 
ويفرحون إذا زل النعال بنا = ويهزؤون بمن يروي معالينا 
ولا يرون سوى أغلاطِنا أبدًا = فنقدُهُمْ صارَ في أهوائهم دينا 
وشتْمُهُمْ هو محضُ النصحِ عندهمُ = وردُّنا هو زورٌ من مغاوينا 
لحومُهُم عندنا مسمومةٌ أبدًا = ولحمُنا صارَ تحت النقدِ سردينا 
فنحن عند الحداثيين قافلةٌ = من الخوارج نقفو النهجَ تالينا 
أما الغلاةُ فإنا عند شيخهمو = لسنا ثقاتٍ وما كنا موامينا 
ونحن في شرعِهِ خُنَّا عقيدتَنا = من بائعين مبادينا وشارينا 
حتى السياسي مرتابٌ ولو حلفتْ = لنا ملائكةٌ جاءوا مزكينا 
كم مولَعٍ بخلافي لو أقولُ له = هذا النهارُ لقالَ الليلُ يضوينا 
إذا طلبنا جليسًا لا يوافقُنا = واديه ليس على قربٍ بوادينا 
فتاجرٌ لاهثٌ ألهتْهُ ثروتُه = عبدَ الدراهمِ قد عادى المساكينا 
وجاهلٌ كافرٌ بالحرفِ ما بصُرَت = عيناه سِفْرًا وما أمَّ الدواوينا 
ومعْجَبٌ صَلِفٌ زاهٍ بمنصبه = تواضعٌ منه فضلاً أن يماشينا 
فالآن حلَّ لنا هجرُ الجميعِ وفي = لزومِ منزِلِنا غُنْمٌ يواسينا 
نصاحبُ الكُتُبَ الصفراءَ نلْثِمُها = نشكو لها صخَبَ الدنيا فتشكينا 
تضمُّنا من لهيبِ الهجرِ تمطِرُنا = بالحبِّ تُضحِكُنا طورًا وتُبْكينا 
ما في الخيامِ أخو وجدٍ نطارِحُه = حديثَ نجدٍ ولا خلٌ يصافينا 
فالزمْ فديتُك بيتًا أنتَ تسكُنُه = واصمتْ فكلُّ البرايا أصبحوا عينا 
شكرًا لكم أيها الأعداءُ فابتهجوا = صارت عداوتُكُم تينًا وزيتونا 
علَّمتمونا طِلابَ المجدِ فانطلقتْ = بنا المطامحُ تهدينا وتعلينا 
جزاكم اللهُ خيرًا إذْ بكم صلحت = أخطاؤنا واستَفَقْنا من معاصينا 
دلَلْتُمونا على زلاتِنا كرمًا = وغيرُكُم بِسُكارِ المدحِ يُعمينا 
فسامِحونا إذا سالتْ مدامعُنا = من لذعِ أسياطِكُم كنتم مصيبينا 
تجاوزوا عن زفيرٍ من جوانِحنا = حلمًا على زفراتٍ في حواشينا 
ثناءُ أحبابِنا قد عاقَ همتَنا = ولومُ حسادِنا أذكى مواضينا 
ماذا لقينا من الدنيا وعشرتِها = عشاقُها نحنُ وهي الدهرَ تقلينا 
على مصائبها ناحتْ مواجعُنا = ومن نكائدِها ذابتْ مآقينا 
تغتالُنا بدواهيها وتنحرُنا = صارتْ مخالبُها فينا سكاكينا 
والآن في البيتِ لا خِلٌّ نُسَرُّ به = إلا الكتابُ يناجينا ويشجينا 
<******>doPoem(0)******>
ملحق الرسالة 
جريدة المدينة الجمعة 23/10/1426