الشذوذ الجنسي في عمل روائي جديد
الشذوذ الجنسي في عمل روائي
للكاتب العماني حسن اللواتي
دخل الأدب وبالتحديد الرواية المجال اللامرئي للمجتمع، عبر اختراقات لأغلفته والوصول إلى نوى بنيته ككاشف وناقد ومصحح ومشخص ، وفي أحايين كثيرة يقدم وصفات عن طريق جرعات جمالية يكون لها التأثير على وعي المتلقي بالرفض أو القبول لصيغة معينة بشكل مباشر أو غير مباشر ، ومن هذه القضايا المثيرة للجدل التي تخطى الأدب حدودها الحمراء ، ووقف في دائرة لهيبها - الجنس ، هذا المحرم الموجود بين كل كائن وبين ذاته ، بين كل ذكر و الأنثى ، وكشذوذ بين الأنثى والأنثى ، وبين الذكر والذكر – حالة مرضية– دخلت الرواية العربية إلى محرماته ونظرت إليه من الداخل كمغامرة لا تزال في بدايتها رغم المساهمات العديدة والهامة، فقد قدم لنا الروائي العُماني حسن اللواتي رواية صادرة عن دار أزمنة للنشر في الأردن عام 2004 بعنوان (رحلة البحث عن الذات ) وهي الرواية الأولى له ، وموضوع الرواية: الجنسية المثلية Homomsexuality - اللواط - أو العلاقة بين رجلين .
بالتأكيد ، تأتي هذه الرواية بعد سلسلة طويلة من الروايات العربية التي تناولت موضوع البغاء بكل أشكاله، فقد تطرق الكتاب العرب لمواضيع الجنس وشذوذه وطقوسه المتنوعة في كثير من أعمالهم الإبداعية ، مثل رواية " الخبز الحافي" للروائي المغربي محمد شكري ، و" رائحة الصابون" للروائي رشيد بوجدرة ، ورواية " رحلة غاندي الصغير " للروائي الياس خوري ، والروائي غالب هلسا في روايته" السؤال " ، وتوفيق يوسف عواد في روايته " طواحين بيروت " ، ورواية " حرودة " لطاهر بن جلون ، وغيرها من الروايات التي جعلت القصيَّ من الجنس والممنوع منه في محرق عدسة الأدب ، وبيان آثاره السلبية والدوافع الكامنة وراءه ونتائجه المختلفة.
لكن الروائية حنان الشيخ في روايتها " مسك الغزال " تختلف عن الروايات المذكورة أعلاه بأنها ولجت عالما آخر للجنس عبر تناولها للمثلية الجنسية بين امرأتين – السحاق - وما يتآتى عن هذه الإشكالية من أسئلة تقع على رأس نصل النص الذي يسهم في التحفز لتلقي جرعة من جرعات الواقع المرة .
وفي هذا السياق تأتي رواية حسن اللواتي " رحلة البحث عن الذات " الذي طرح موضعا شائكا في رواية بلغ عدد صفحاتها 136صفحة .
فكرة الرواية :
جاءت الرواية ضمن ثمانية فصول يمثل كل فصل رحلة من رحلات صراع البطل مع نفسه ومواجعه الروحية والعوامل الأخلاقية التي أثرت عليه ، وفق معادلة عكسية لإشكالية الصراع الذي أغلق دائرتها على مرتكز جسدي تمثل فيه ثابت الزمان والمكان ، بحيث أصبحت خطيئته – اللواط- هي المحور المحرك للفعل التالي عبر تقزيم بقية الأفعال في علاقتها مع الطبيعة ومع المجتمع ، وتأخذ فكرة التوبة قيمة ثابتة لا تحتمل التواصل أو التعامل مع اتجاهات أخرى تخلص البطل المنغلق على نفسه ، بحيث يتحول إلى كتلة تجاهد لكشف مكنونها ، وتبين وجود كائن حي غير قادر على تجاوز حدود ذاته.
رحلات الرواية : الرحلة الأولى تعرض معاناة البطل والآلام التي تعتريه نتيجة ذنب ارتكبه- ذنب اللواط- والبحث عن وسيلة لتبرير هذا الإثم الذي وقع فيه ، وعبر سلسلة من كشف وإعلان وتشريح للخطيئة على خلفية أخلاقية لتابوهات سقيمة، تبرز الأنا ككيان حاضر في الذات وضمير مغيب اجتماعيا ، بحيث ينعدم المنولوج مع الخارج لحساب المنولوج الداخلي الذي يطبع الحالة السردية لرواية بدءا من هذه الرحلة وحتى الرحلة الأخيرة ، ومن خلال عرض البطل لعثراته الأخلاقية وطقوس الألم وكأنه أراد أن يقول كل شيء في هذه الرحلة التي عنونها بالرحلة الأولى .
في الرحلة الثانية ، يصبح البطل ( باسل ) ضمن مجال شاشة رصد قلم الراوي ، حيث يكشف عن صراخه وعلاقته برغباته الشاذة اللأخلاقية ، ويظهر المشاعر التي تعتريه دون طرح أي سؤال هام حول الجدوى من الشكوى والألم والندم .
في الرحلة الثالثة : تتقدم القيم الأخلاقية للبطل التي طغت على ما تبقى من الرحلات كخلاص لما وقع فيه من دنس ، وبروز منطق الغيب والتقوى عبر صراع ديني- أخلاقي أراد منه الكاتب أن يخلص بطله من أزمته ( إلهي ! أعنا على أنفسنا وعلى كبح جماح أهوائنا ، إلهي ! لقد ألهمتنا ( الفجور ) و ( التقوى ) فوفقنا للاستفادة من هذا الإلهام ) ص121.
منذ بداية الرواية يظهر البطل كشخصية مجردة من اتجاهاتها الاجتماعية ومكوناتها الحياتية ،البطل شخصية ذات اتجاه واحد بسيط ، وألمه واحد ، ذنبه واحد، ونجواه واحدة ، لا يتعدى كونه شخصا أصابته سقطة الفاحشة ، ومن بعدها بدأت حمى الندم تعتريه محاولا أن يبقيها طي الكتمان مبالغا في محاولته تمتين هذا السر وكأنه يحترق في نار المحاولة للتصالح مع ذاته عبر شتيمة الخطيئة ، لكن عجزه شوه هذه المحاولة ، وأصبحت مجرد نجوى ذاتية لا تتعدى حدود الرغبة في التصالح، خاصة وأنه تمّ إقصاء المجتمع والقوى الذاتية الأخرى الممكنة عن دورها وترحيل كل ما يمكن أن يفعله إلى الغيب واليقين المسبق على خلفية ثقافية بعينيها ، والانطواء تحت نسق غريزي ، والتمسك بقينيات ثابتة ، وبالجدوى المخادعة من استغاثته كمخرج وحيد لهذه الأزمة .
وهنا تنكشف حالة تشظي الأنا إلى" أنات " شاردة ، لا بنية محددة لها : فيزيولوجية أو ثقافية التي أفرزت الخطيئة ككائن قائم بذاته بمعزل عن العوامل الأخرى التي ساهمت في خلقها ، فتشتت البطل بين الخطيئة وبين البحث عن عكسها عبر ثنائية : الألم والخلاص ، الدنس والعفة ، الإثم والتوبة ، مما أضعف هذه الأنا ، وزاد من ضعفها لجوؤه إلى فرديته دون القدرة على تجاوز فرديته إلى ثنائية اجتماعية وطبيعية بأي حال من الأحوال ، رغم محاولته إطلاق بارقة أمل عبر ثنائية الجريمة والعقاب ، وهذا الثنائية جاءت منقوصة كونه استغلها لطرح أسئلة مغلقة ، أو مجموعة من إشارات استفهام دون أجوبة أو حتى دون الجهد للبحث عن أجوبة ، فانكشفت ذات ضعيفة مستكينة لا تستحق حتى الشفقة عليها ، خاصة بعد الاستجداء للتعاطف معها عبر قوى غرائبية معطلة أصلا في الوصول إلى المتلقي لاستعطافه وكأنه جزء من المشكلة " يخشى أن تسري السموم في عروقه . وقف كشجرة يابسة ينظر إلى الغروب ويتساءل أين هو ذلك الاخضرار الذي يكسو الأرواح الطيبة البعيدة عنه ؟ " ص 86.
تُختصر الرواية على هذا النحو : شخص لوطي ، يشعر بالذنب ، ويستنجد بحل من السماء عبر منظومة الدين والأخلاق للخلاص من ذنبه ، ويُلخص هكذا : جريمة ، اعتراف ، وعقوبة .
الشذوذ بالفعل جريمة لأنه فعل شائن لا ينسجم والسياق الفيزيولوجي والطبيعي للإنسان .
حدث الإثم ، لكن لهذا الإثم أسبابه ، وظروفه الخاصة والعامة ، بقي إثما مجردا وحسب ، وهنا ظهر الانفصام المطلق بين الخاص – الذات ، وبين الموضوعي – العام الذي يمثله المجتمع والمغيب عن التأثير كأن البطل مفقود في جزيرة خالية من البشر ، الكاتب هنا صادق في تشخيص المأزق والعزلة التي فرضها البطل على نفسه ، حيث يكشف عن عمق مشكلة الأنا المصابة بالعجز ، و التي تنفصل عن مكونها الأساسي وهو المجتمع ، وكلما غيب الفرد نفسه غيب المجتمع أو غاب عنه المجتمع ، فانساق خلف قيم زائفة لا تقدم له سوى المزيد من الضياع والتشتت، والدخول في حلقة مفرغة ، مكوناتها:
- عجزه عن الاعتراف .
- العجز عن الفعل .
- انكشاف ضعفه .
هذه الذات المتعثرة في حبائل العجز تلقي التهمة مباشرة على المجتمع الذي تنتمي إليه ، لأنها في النهاية هي جزء منه ، وتقول له : أنت مثلي ، تعاني كما أعاني من القدرة على الاعتراف والقدرة على الفعل ، وأنت مجتمع ضعيف مثلي لأنك لم تتح لي ولم تمنحني الفرصة كي أمتلك أدواتي كي أواجه مشاكلي أيا كانت أخلاقية أم غير أخلاقية .
وفي ثنائية الفرد – المجتمع تسقط من العادلة مأثرة الفعل من كلا الطرفين : الفرد والمجتمع لصالح الخوف من كل شيء ، ويصبح البطل طريح استبداد خاص به واستبداد عام يكونان مقتل أي أمل أو مخرج لهما في إحداث تسوية جدية.
السرد : يُلاحظ منذ بداية النص البناء السردي الذي فُرض ليتمشى مع الفكرة القائمة على الانغلاق ، فانسحب ذلك على السرد الذي انغلق بدوره حول جملة من التفاصيل والرموز والدلالات التي سُخرت لإظهار جوانب مثل ( التوبة ، الطهارة ، الهروب ، السلوك ..) على حساب تحليل شخصية البطل والولوج في عوالمها ، فخلت الرموز من الإشارات العميقة ، وطغت المباشرة على الجمل ، وحُملت اللغة شحنات لم تؤدي وظيفتها كونها ذهبت في غير اتجاه رغم تمكن الكاتب من الإمساك بها ، لكنه لم يوجهها إلى فضاءات تقحم المتلقي في قبول هذه المغامرة، وطغيان عوامل ثانوية أخرى في صياغة البناء وكأننا مع بكاء بطل وليس مع بطل يبكي ، بمعنى آخر سطوة المفعول به – المدلول على الفاعل – الدال ، وصعوبة التواصل بينهما ، فمالت كفته لصالح الزرائعي منه ، أي التوبة وكأنها هي البطل .
والحوار الداخلي المنغلق الموجه هو إضافة للنص واتبعه الكاتب الإنكليزي ابان مكيوان في رواياته الأولى ، وكان بإمكان الكاتب أن يطور حواره إلى منولوج داخلي : بين البطل وبين خطيئته ، بين الخطيئة والطهارة ، بين يأسه وأمله ، و بين الذات ومكوناتها مثل: الوعي ، والعجز ، و العزلة ، الخوف ، الخلفية الأخلاقية والدينية والتربوية .
لم يكتمل هذا الحوار الداخلي ، ويقودنا ذلك إلى نتيجة يطرحها سؤال تلقائي :
ماذا عن العقوبة ؟ مما تقدم من السهل الاستنتاج بأن العقوبة لا يمكن أن تنضج لأن البطل فاقد القدرة على الاعتراف ، ومعزول عن بنيته الاجتماعية ، يمكن أن تكون هذه العزلة هي شكل من أشكال العقوبة لو فرضها مثلا على نفسه ، أو فرضها المجتمع عليه عبر منظومة ثقافية- تربوية – أخلاقية – قانونية تفضي إلى خلاص ذاتي – خاص ، واجتماعي – عام ، ويثير ذلك سؤالا جوهريا حول المجتمع الخليجي وعلاقته بهذه المنظومة . بينما تبرز لدى الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ هذه المنظومة في شقها الأخلاقي، وتمكنت من التحليل والتركيب والمكاشفة في روايتها " مسك الغزال " وتعري بطلتيها سهى الفقيرة ونور الغنية للوصول إلى عمق الأزمة ، ودور المجتمع في المشكلة ، وفي رواية " الحشاش " للكاتب العراقي عبد الباقي شنان يعاقب البطل بسبب شواذه ويلقى جزاءه في إطار منظومة القانون ، وصحوة ضمير راسكولنيكوف بطل رواية " الجريمة والعقاب " لديستوفسكي هي كانت العقاب ، أما في رواية " رحلة البحث عن الذات " فالعقوبة جاءت خارج السياق ، و لم يكن للمجتمع أي دور بمعناه المؤسسة الحاضنة للأفراد ، وغرق البطل في بحر العزلة تعود للأسباب التالية : اللايقين ، اللاجدوى ، اللاعتراف مما تجعل العلاقة بين الخاص والعام علاقة مشوهة " كانت عباءة الليل التي لففتها حول نفسك تساعدك على إخفاء أسرارك فقدت كل رغبة في مقاومة الظنون والشكوك .. هناك تختلط الذات بالكثير من الأشياء الغامضة ولا أحد يدري عن تلك الأحداث التي ستخرج من رحم المستقبل .. وعلى الرغم من كل جهوده فإن سفينته تنقلب لأن الموج أعتى وأغلب .. " ص17-18
في الختام، بقي أن أشير إلى دور العلم في تناول هذه المشكلة ودراستها ،و بأن العلماء منكبون على تحليلها من الناحية النفسية والطبية ، وتوصلوا إلى نتائج هامة بشأنها لا مجال لذكرها هنا.
د. أسد محمد
كاتب روائي ومسرحي سوري
assadm20005@gawab0com
|