((طوق الحمامة في الألفة والألاف ))

[صمت الكلام]

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بقلم : نزار وجيه فلوح
من أمتع الأشياء أن يُقْدم كاتبٌ على قراءة أثر تراثي في أجمل ما يشغل الإنسان في مختلف الأزمنة والعصور ... ألا وهو الحب , فيقف على نص أدبي بليغ , نذب نفسه له واحد من كبار صناع الكتابة في التاريخ العربي , وصاغه بكثير من العناية والتشويق ألا وهو : رسالة ((طوق الحمامة في الألفة والألاف )) لإمام الأندلس وأديبها وفقيهها أبي محمد علي بن احمد المعروف بابن حزم الأندلسي . وتشيرُ الدلائلُ التاريخية والأدبية إلى أن هذه الرسالة كانت على صورة مختلفة عن النص الذي وصلنا , بمعنى أن نصً (( الطوق )) الذي نتداوله اليوم لا يمثل حقيقة الرسالة كما وضعها ابن حزم في عصره . وهو ما سنعود إليه بمزيد من التفصيل والإيضاح .

ولكن قبل ذلك , لا بد من إلقاء الأضواء على صاحب هذه الرسالة , في حياته وشخصيته ومؤلفاته للدخو إلى لب الرسالة ودراستها كما ينبغي ..

ابن حزم : حياته وشخصيته

هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان (أو صفيان ) بن يزيد الفارسي , وتعيد المصادر نسبه إلى أصول مشرقية , فتذكر ان يزيد هذا كان من موالي يزيد بن أبي سفيان , وأن جده ((خلف)) كان ممن نزحوا إلى الأندلس . ولعل هذا ما يُفَسر النزعة الأموية الواضحة في شخصية ابن حزام وفكره أدبه .

ولد ابن حزم سنة 384هــ/994مــ في قرطبة , حيث كان آباؤه قد انتقلوا إليها , وحققوا فيها مكانة مرموقة , فقد كان ابوه محمد بن سعيد بن حزم (أبوعمر) من وزراء الدولة العامرية في عهدي : المنصور محمد أبي عمر , وابنه المظفر , ثم ولي ابنُ حزم نفسُه الوزارة عن أبيه في عهد عبدالرحمن بن هشام , ولكن القلاقل والاضرابات التي حدثت في أيامه دفعته بعد النكبات والتشرد إلى نبذ الوزارة والمناصب , والتفرغ لقراءة العلوم , والتبحر في الفقه والآثار والأحاديث والسنن والآداب واللغات , الأمر الذي جعل صفة الفقيه والإمام تغلب على شخصيته ومؤلفاته .

عُرف ابن حزم بآرائه الفقهية الخاصة ومناقشاته آراء اهل الملل والنحل الإسلامية وغير الإسلامية , مع عنايته بعلوم المنطق والكلام والشريعة , والأخلاق والسياسة , والشعر والأدب والخطابة والنحو والبلاغة , وإن كانت شهرته قد تجلت في مضمار الفقه والحديث والأصول , فقد كان واحدا من رموز المذهب الظاهري في الفقه , وهو يأخد بظاهر النص القرآني في الفهم والتفسير ,مخالفاً بذلك ماكان سائدا في عصره وبيئته , فأوغر ذلك عليه صدور الأعداء والخصوم الذين ألبوا ضده العامة , فمزقت كتبه وأحرقت , وهو يتحسر على ذلك ويقول مدافعا :
وأن تُحرقُوا القِرْطاسَ لا تًحرقوا الذي ..... تَضَمنَهً القِرطاسُ بَلْ هًوَ في صَدْدري
يَسير معي حيثً استَقَلتْ ركائِبي ...... ويَنزلً إنْ أنزِلْ ويًدْفن في قَبري
دعوني من احراقِ رقٌ وكاغد .... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة .... فكم دون ما نبغون لله من ستر

ولعل حد رأيه , وجراته وسلاطة لسانه , كانت في جملة الأسباب التي استثارت كراهية الآخرين له , فسببت له ما آلت إليه حاله من فقد المناصب واحراق آثاره , إذ ينقل بعضهم أن (( لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان)) . وهذا الطبع الجرئ الحاد قي شخصيته يرده الأستاذ ابراهيم الأبياري الى امتزاج طبيعة ابن حزم الفطرية والموروثة عن اصول غير اسلامية (فارسية) بطبيعته الاسلامية المكسوبة , ((فكان من هذا المزيج ابن حزم الناقد الحر الجرئ , ذو الاسلوب الجديد وصاحب النهج المبتدع ))1.

بذلك عُرف ابن حزم فقيها اديبا , شاعرا ,فيلسوفا , مؤرخا لأحوال الأندلس , عالما بالسياسة والأخلاق , وكثرت اعماله وتآليفه في مختلف العلوم الانسانية حتى رابت على الأربعمائة كتاب ورسالة , وفق ما ذكره ياقوت في معجم الأدباء .
وقد أطلق عليه لقب جاحظ الأندلس لغزارة علمه وتبحره الواسع في مجالات الثقافة والفكر والفنون .

يتبع ..
صمت الكلام